بإشارة الساعة إلى ما يقارب التاسعة والنصف من يوم الثلثاء الماضي، وكنت حينها متوجهة إلى العمل، وبعد قطع مسافة بسيطة جدا من دوار القدم، لمحت رجلا «يتعفرت» على الأرض، الأمر الذي جعلني أتخذ المسار الآخر... للوهلة الأولى من رؤية هذا المنظر لا يملك قلبك إلا أن تتسارع نبضاته لما قد يتبادر إلى ذهنك من أن حادثا وقع وما هذا الرجل إلا ضحيته... ولكن ما إن تقترب أكثر حتى تصيبك الدهشة من المنظر وتتبدد مع تلك اللحظة فكرة وقوع حادث لتولد في ذهنك فكرة أخرى مشتتة وحائرة، إذ في الأمر «إنَّ» ولكن علمها عند الله وحده وعند رجل المرور الذي كان واقفا بجانب هذا «المسدوح» على الأرض واضعا يديه خلف رأسه وكأنه في جلسة حمام شمسي على شاطئ البحر وليس في وسط شارع عام ممكن لأي غافل أن يدوسه في غمضة عين من دون أن توجه إليه أية تهمة!
ربما ما منعني من الركون بالسيارة على جنب والنزول لمعاينة هذه الواقعة إلا لمحي للأخ الزميل حمد الغائب وهو مكفهر الوجه ومستعرضاً عضلاته وماشياً بكل همة إلى ذلك الموقع، الأمر الذي قد يطرق على بالك أن حمد متورط في حادث ما، ذلك الرجل «المسدوح» يمثل الطرف الآخر... تجلدت وقلت في بالي عساه خيرا وخصوصا أن ملامح الرجل ذاك لم تدل على مكروه، وما وراء ذلك الانبطاح إلا سر سيكشفه لنا حمد قريباً.
وفعلاً وصل حمد إلى مبنى الصحيفة بعد مدة بالنسبة إلى شاهدة مثلي من دون معرفة الأسباب غير بسيطة أبداً! وحين تلقفته بالسؤال جاءني لسان الحال يشكو العازة والسكن الذي دفع ذاك الرجل وهو سائر في دربه وبسيارته على ذلك الشارع إلى أن يقرر فجأة أن يقفز من سيارته ويترك لها العنان بالسير كيفما وإلى أي مكان تريد لولا مسارعة أحد المواطنين بكبح جماح تلك السيارة المجردة من صاحبها الذي أخذ يخلع ملابسه وهو يمشي في طريقه، وزبدة الأمر «هكذا هو حالي (مفصخ) وهكذا يريدوني أن أعيش دوماً»!
الرجل ثبت أنه ليس بمجنون ولا محتسيا للخمر ولا مدمنا للمخدرات وإنما هو رجل واقعي مئة في المئة وما عمله هذا إلا تنفيس عما بداخله وتعبير عن واقع معاش، مؤكدا أنه ليس الوحيد الذي ذاق مرارته وإنما كثيرون غيره، ويكفينا ما ينشر في الصحف كل يوم دليلا على صحة ما نقول!
انتظار طويل قد يأخذ حيزا كبيرا من أعمارنا ونحن ننتظر السكن، أو قرضا للبناء قد لا يكفي لتأسيس كوخ صغير... ومع ذلك رضينا بالهم، ولكن هل رضي هو بنا؟ لا!... فعند تلقينا للبشرى بكساء أجسادنا العريانة تحت أسقف متداعية أو عشة للفراخ أو شعرة تفصلنا عن الرصيف المحاذي لشقة نسكنها ولم نقوَ على تسديد إيجارها لأننا (يا دوب) نطعم أفواهنا وقد لا نستطيع إسكات رغي بطوننا... عند تلك اللحظة نفاجأ بمطالبتنا بتوفير كفيل لأن شركتنا ليس لديها تعامل مع المصرف أو أن رواتبنا لا تصل إلى 500 دينار!... وهل تصل رواتبنا إلى 200 دينار حتى تصل إلى 500؟! وفي ظنكم أننا لو احتكمنا إلى هذا المبلغ الذي قد يكون ضئيلا مقارنة بأصحاب الكروش الكبيرة سنبقى «عريانين» نناشد المسئولين كساءنا بسكن؟!
وبتبدد الأحلام بكشف الحال المنحدر إلى الأسوأ يوما عن يوم، هل سيأتي اليوم الذي نمشي فيها كلنا عراة حفاة نجوب الطرقات معبرين عن تعرينا من السكن ولقمة العيش و... و... و... وما أكثرها «واوات» سئمت ألسنتنا شكوى فقدها وترجّي المعنيين توفيرها لنا؟!... فلا أحسب ذاك الرجل العاري إلا المبادر الأول في فتح طريق آخر لا أجد الكثيرين بعيدين عن السير في ركبه حتى نؤسس لمملكة أخرى غير مملكة الرخاء والعزة... مملكة لا يقطنها إلا «العريانون»
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 839 - الأربعاء 22 ديسمبر 2004م الموافق 10 ذي القعدة 1425هـ