لم تمارس دعايةٌ على مستوى العالَم عبر التاريخ كما مارسَها النموذج الغربي (التنويري/ العقلاني/ الحداثي) لرمزيته الكبرى المتمثلة في «الديمقراطية». كانت هذه الديمقراطية جوهرَ حضارة الغرب في القرون المتأخرة، واستطاع بها استعادةَ سيطرته على العالَم، بعد أن فقدَها في العصور الوسيطة، مع ظهور نموذج حضاري مغاير كان وريثًا لكل الإمبراطوريات القديمة منذ اليونان وحتى امبراطورية الروم الشرقية. ومع استعادة سيطرته برّر الغربُ المتوحّش، كل أشكال التدمير والإلغاء للآخر، منتزِعًا من الشعوب حقَّها الطبيعي في إدارة شئونها الذاتية والخاصة، وفارضًا نفسَه وصيًّا عليها.
كانت هذه «الديمقراطية»، في نهاية المطاف، حجر الزاوية التي يعتمد عليها النموذج الغربي. وبالركون إليها بصورة أساسية، تمّ استحداث حزمة من القوانين والأعراف التي تشكّل أساسات المجتمع المدني، وتحافظ على هويّاته وتتيح إمكان الاتصال بالآخر والانفتاح عليه بما لا يقطع مع ذاتية هذا المجتمع وخصوصياته التاريخية. وفعلاً، فقد استطاع المجتمع المدني الغربي ممارسة التطوير والحداثة ضمن سياقاته الخاصة المتصالحة مع الذات، وبما يضمن تفوقه وسيطرته المطلقة.
وإذا كان الغرب يجابه العالَم كلّه باعتماده نموذج الديمقراطية والتنوير واحترام الآخر، فإنّه أمام التحديات المستجدة سرعان ما يتكشف زيفُ ادّعاءاته. حدث هذا في حوادث مشهودة، وعلى مرأى ومسمع من العالَم كله، في قضية «الحجاب» في فرنسا راعية الديمقراطية وداعية حقوق الإنسان الأولى. وحدث مثلُ ذلك بالأمس القريب في قضية قناة «المنار» التي صدر الأمر بإغلاقها، وتطورت القضية إلى درجة أن الولايات المتحدة الأميركية أدرجت قناة «المنار» ضمن المجموعات الإرهابية التي يجب أن تزال من الوجود. والقضية، وإن حاول الغربُ إضفاء مسحة «السياسة» عليها فقط، فإن الأمر يتعدّى ذلك ليصبح متعالِقاً بقضايا حرية الرأي والضمير والمعتقد، وما يتصل به من مسائل الوجود الكبرى، ليغدو معبِّرًا عن بعدٍ حضاريٍّ، يتعامل عن وعي وإدراكٍ وسابق تصميم مع مختلف القضايا العالقة وذات البعد الإشكالي.
لن يغدو الأمر مجرد قضية حجب ومصادرة للحرية الفردية فيما يخص موضوع «الحجاب»، بل إنه سيتعدّاه، بالضرورة، إلى جميع أجزاء وأطراف الشبكة المفهومية التي يقوم عليها النسيج الحضاري الذاتي في مقابل النسيج الحضاري الآخر الوارد، والذي يخشى على المفاهيم الأولّية من أن تصابَ في مقتل بمجاورتها إياه وتماسّها معه. ولهذا، فإن القضية تصبح صراعًا رمزيًّا بين الأطراف المستجدة وبين الأطراف التقليدية المكوّنة للمجتمع المدني الغربي الجديد الذي بدأ يضيق ذرعًا بالنسغ المغاير الذي أخذ يمتد بعيدًا وعميقًا في خلاياه. أمّا فيما يتصل بقناة «المنار»، فإن الأمر يأخذ بعدًا ثانيًا يتعلّق بتكريس المفاهيم الغربية للإرهاب وأشكاله. ولن يكون ممكنًا، هنا، التذرّع بذريعة الدفاع عن حقوق شعب أو مجموعة أو طائفة، كما هو حاصل في مرافعة من سعوا إلى غلق قناة «المنار» بدعوى محاربتها الساميّة واليهود؛ لأن المسألة تتصل بحق الناس المطلق في الاستماع للرأي الآخر أولاً، ولأنهم أعلمُ من سواهم بأشكال الخطاب اليهودي الإقصائي، وبرمزيته الموغلة في وحشيتها تجاه الآخر ثانيًا. ونتيجة لكل ذلك فإنه لا يوجد مبررٌ أبدًا لكل الإجراءات القمعية المتخذة ضد قناة «المنار» التي لن يغدو من الممكن فهمُها إلا عبر الرجوع إلى ما طرحناه آنفًا بشأن مسألة الصراع الرمزي الذي يتعاظم مَدُّهُ عبر العالَم بفضل الجنون الغربي المستمر، وخصوصًا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
إن ذلك كله، إنما يكشف عن زيف الادعاء الغربي بالديمقراطية حينما يتعلق الأمر بطرح مغاير يمكنه تقديم نموذج بديل قائم على أسس عقائدية وفلسفية مغايرة. ولن تسمح هذه الديمقراطية الغربية، أبدًا، لأي نموذج بديل بالبقاء... ولن تتيح له الفرصة للنمو الذاتي والهادئ، كي يصل إلى حال مستقرة يتصالح فيها مع ذاته وتاريخه ورموزه
العدد 839 - الأربعاء 22 ديسمبر 2004م الموافق 10 ذي القعدة 1425هـ