لعل الوقت قد حان كي تعيد جمعية نهضة فتاة البحرين كتابة تاريخها، هذا التاريخ الاحترافي العريق في مجال العمل التطوعي الذي بدأت انطلاقاته الأولى بحسب صحيفة «القافلة» منذ تأسيس «نادي البحرين للسيدات» في 5 يناير/ كانون الثاني 1953م، وبمشاركة من البحرينيات والإنجليزيات اللواتي عقدن أول اجتماع لهن بمدرسة الزهراء للبنات في العاصمة المنامة. النشرة الرسمية الصادرة من الحكومة أكدت هي الأخرى خبر التأسيس وتشكل مجلس إداري ترأسته «الليدي بلغريف» وأمانة سره «لعائشة يتيم»، وعضوية الشيختين نيلة ولولوة بنت محمد آل خليفة وأخريات. إذا نادي السيدات هو الذي تأسس في ذلك العام، وليس جمعية رعاية الطفولة والأمومة، هذه حقيقة.
ثم هناك حقيقة ثانية، الوقائع المشار إليها بشأن هدف النادي بالأساس كان خيرياً وليس تجمعاً نسائياً، وتبين أن هناك معارضة دينية له تمثلت في البيانات التي حثت على مقاطعته، الحملة ضد النادي شارك فيها الزعيم الوطني عبدالرحمن الباكر، ولأسباب سياسية مدركة بسبب رئاسة زوجة المعتمد البريطاني له، والتوجس من هدف تمييع دور الأندية الوطنية المناهضة للوجود الاستعماري وسياساته في البحرين. كلها وقائع لا يمكن بأي حال من الأحوال إخفاؤها.
الحقيقة الثالثة، في كتاب صدر باللغة الإنجليزية «ذكريات البحرين... نظرة من الماضي»، لعائشة يتيم، وهي من رائدات ومؤسسات الحركة النسائية، أكدت: توقف نشاط النادي، وقيامها مع رفيقاتها الأخريات بالالتقاء في منزلها بعد سنتين من تأسيسه، وتحديداً في يوم الأربعاء أكتوبر/ تشرين الأول 1955م، وأسسن النهضة، وبعثن بخطاب إلى مستشار حكومة البحرين للحصول على الموافقة لممارسة الأنشطة من الحكومة آنذاك، وتم ذلك فعلا. على إثرها ترأست يتيم أول مجلس إدارة للجمعية الوليدة لمدة عشرين عاماً من 1955 - 1974م، ثم خلفتها فائقة المؤيد من 1975 - 1979م.
حقيقة رابعة: المسئولة السابقة في وزارة العمل والشئون الاجتماعية، ومديرة إدارة التنمية الاجتماعية فايزة الزياني، بدورها تذكر في دراسة لها عن نشأة الجمعيات النسائية: «نبعت فكرة الجمعيات النسائية في الخمسينات، واجتمعت السيدات والفتيات اللاتي احتضن الفكرة في بيت عائشة يتيم، التي اختيرت فيما بعد رئيسة لهذه الجمعية، وهي جمعية نهضة فتاة البحرين التي تأسست العام 1955، وتعتبر أول جمعية نسائية رسمية تشكلت في منطقة الخليج العربي».
حقيقة خامسة ترويها يتيم والمؤيد لمجلة «أسرتي» الكويتية عن بدايات نشاط النهضة، المقابلة تمت في 26 أبريل/ نيسان 1969، أي قبل تفجر الخلاف عن أحقية التأسيس في التسعينات، فتذكر يتيم: «... تقدمنا في العام 1955 للحصول على رخصة... لم نصدق أنفسنا حين جاءتنا الموافقة وبدأنا العمل...»، أما المؤيد فتضيف في المقابلة نفسها مع أسرتي: «جاءتنا الموافقة... لقد أصبحنا كياناً رسمياً معترفاً به. وبدأنا المسيرة...».
الأكاديمية والباحثة منيرة فخرو تذكر في دراسة لها أيضاً عن «المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في البحرين»: «وترجع بدايات العمل النسائي المنظم في البحرين إلى سنوات الخمسينات من هذا القرن حين تأسس ناد للسيدات العام 1953. وترأسته زوجة المستشار البريطاني، وضم نخبة من سيدات المجتمع، واستمر النادي سنتين وتلاشى نشاطه عندما تم إنشاء أول جمعية نسائية في الخليج العام 1955، وهي «جمعية نهضة فتاة البحرين».
نسوق الحقائق السابقة، على خلفية التصريحات المتكررة التي يدلى بها من حين إلى آخر، وآخرها أثناء احتفالات جمعية رعاية الطفل والأمومة، من أن جمعيتهم هي أول جمعية تتأسس في البحرين والمنطقة. لا شك أن هذا القول لا يمكن تمريره مروراً عابراً، كما لن تسمح عضوات النهضة بابتلاع تاريخ جمعيتهن كمؤسسة رائدة للعمل النسائي، ولن تلقي هذه الأقاويل بظلالها سلباً على الجمعية لأن لديها من الأسانيد والوثائق والمنطق ما يدحض المصرح به. فسرد حذافير تاريخ التأسيس ليس بغرض إبراز مظاهر الحدث برؤية أحادية الجانب، ولا من دائرة مغلقة تطمس ما عداها من مؤسسات نسائية تأسست في البلاد، وقطعاً ليس بقصد التشويه أو اجتزاء ما لا يرغب فيه من التاريخ النضالي لبقية الجمعيات النسائية. هناك ثمة من يقول إن «تاريخ النهضة ليس ملف قضية يفتح ويقفل بأمر من مسئول في وزارة العمل والشئون الاجتماعية، أو بأمر من هذه الدائرة أو تلك، تسحب مراسلات من ذلك الملف وتضاف أخرى، وبغرض اختزال الواقع وتأويله وتغيير معانيه كيفما يشاء. إن التاريخ لا يحرف بحسب الأهواء، بقدر ما يكتبه أصحابه الذين لهم حق فيه.
هذا الخلاف استدرجنا لمعرفة ردود الفعل لدى بعض عضوات من جمعية النهضة، عن خلفية الاختلاف والتضارب في التصريحات، قالت بدرية القاسمي: «... إن الأكبر سناً واللواتي ما زلن على قيد الحياة يؤكدن ان أول جمعية تأسست في البحرين هي النهضة وبرئاسة عايشة يتيم، وما عدا ذلك فهو مخالف للواقع والحقائق».
وداد المسقطي التي عاصرت مسيرة الجمعية تقول وعن دراية: «بسبب هذا الخلاف، بيننا وبين وزارة العمل والشئون الاجتماعية قضية في المحاكم، ولا يوجد حكم قضائي نهائي فيها بعد، فالحكم الابتدائي الذي صدر وأيدته محكمة الاستنئاف باعتبار أن موضوع الدعوى يقع خارج دائرة اختصاصها، لا يعد حكماً قضائياً نهائياً للقضية، تتصرف بموجبه الرعاية وكأنها كسبت الدعوى، وخصوصاً أن محامي النهضة قد نقضه لأسباب خطأ إجرائي يتعلق بموضوع التقاضي. إذن القضية لاتزال قيد حكم محكمة التمييز ولم يبت فيها إلى الآن نهائياً. لهذا دهشنا عند سماعنا للتصريحات المتلاحقة عن أحقية الريادة في التأسيس، فهذا السلوك مخالف للأصول القانونية، إنه محاولة للتأثير على سير إجراءات القضاء وعلى السلطة القضائية عامة. تاريخياً نادي السيدات تأسس في 1953 وهو لا يمثل جمعية رعاية الطفل والأمومة، ورئيسة جمعيتهم كانت عضواً مؤسساً في ذلك النادي مثلها مثل عائشة يتيم وغيرهن. وبحسب قانون الجميعات والأندية الصادر في 1959م، فقد نصت مادته 3 - فقرة ب صراحة على أن الجمعيات التي تأسست قبل هذا التاريخ لا ينطبق عليها هذا القانون في طلب التأسيس والإشهار من جديد، إذ إن جمعية النهضة قد حصلت على الموافقة لمباشرة أعمالها من قبل المعتمد البريطاني والحاكم المغفور له الشيخ سلمان آل خليفة، ولهذا لم ينطبق عليها القانون لأنها تأسست عملياً ومارست أنشطتها سلفاً، على عكس جمعية الرعاية التي تأسست بعد 1959، وأشهرت رسمياً بناء على هذا القانون في العام 1960. أمر آخر إن الرعاية احتفلت رسمياً في 1985م بيوبيلها الفضي (1960 - 1985= 25 سنة)، وهذا موثق بوثائق صادرة عن جمعية الرعاية، فكيف يحتفل بمناسبة اليوبيل الذهبي (أي 50 سنة) وفي الحقيقة لم يمر على تأسيسهم سوى 44 سنة (1960 - 2004= 44 سنة).
أمينة سر النهضة شيخة راشد تقول: «إن العمل النسائي في غالبية المجتمعات ينحو باتجاه التكتل، وتوحيد الجهود النسائية، كجمعية لدينا الريادة في تفعيل لجنة التنسيق بين الجمعيات سابقاً، واللجنة التحضيرية للاتحاد النسائي حالياً، وإن إثارة قضية خلافية كهذه غير ذات جدوى. والمتتبع للأدبيات والدراسات الصادرة على سبيل المثال دراسة الدنماركية سارة هندسون، أشارت إلى أن أول جمعية تأسست في البحرين والخليج هي جمعية نهضة فتاة البحرين، وذلك في سياق حديثها عن برامج التوعية الصحية في قرية سار، ومثلها فعل الكاتب الباحث محمد الرميحي، ونورية السداني. باختصار هذا ليس في صالح العمل النسائي».
ونوهت، إلى انه حرصاً من الجمعية فقد رفعت خطاباً توضيحياً إلى الشيخة هالة بنت دعيج آل خليفة، راعية حفل اليوبيل الذهبي لجمعية رعاية الطفل والأمومة، تشرح فيه ملابسات الموقف الذي تداولته وسائل الإعلام المختلفة بشأن أولوية التأسيس، الخطاب ثمن رعايتها لاحتفالية جمعية رعاية الطفل والأمومة، كتقدير من سموها للعمل التطوعي، كما أشار إلى أن الوثائق الرسمية المتعلقة بتأسيس النهضة قد تم تغييرها من قبل وزارة العمل والشئون الاجتماعية، ما استدعى رفع دعوى قضائية عليها، ولم يصدر حكم نهائي فيها بعد، وتم تحويلها إلى محكمة التمييز للفصل فيها.
الرئيسة السابقة للجمعية نادية المسقطي تؤكد أن القضية المرفوعة في المحكمة ليست على جمعية رعاية الطفل والأمومة، إنما على وزارة العمل والشئون الاجتماعية التي قامت بعملية تغيير الوثائق، وإن تاريخ التأسيس موثق في الصحافة المحلية من خلال مقالات علي سيار وكتابات نورية السداني والرميحي وحتى أدبيات الوزارات الرسمية والحكومية منذ الخمسينات وإلى الآن، ولا سيما وزارة العمل، وإن عملية تغيير مسيرة التاريخ هي لرغبة شخصية ليس إلاّ!
إذاً هذه هي الملابسات المطروحة أمام الرأي العام والقضاء، فماذا سيقررون؟
ثمة أمر مدرك من الكل، إن الصراع على أحقية التأسيس ليس اعتباطياً، ولا يتم بمعزل عن الصراع الدائر حول الأفكار والتباينات في الرؤى والنوايا، وإن كان من أمر نذكره ونرسخه في الذاكرة الجماعية فهو أمران:
الحقيقة لا تعجن وتشكل بحسب الأهواء والمصالح ولا تحرف أو تجتزأ ولا يتم انتقاء أمر ما نرغب فيه أو نطمس ما لا نرغب فيه ونبعده عن الإبراز، إنما يستوجب الأمر قبول الوقائع التاريخية كما هي، وليس كما تركب على المقاسات وبأمزجة شخصية أو جماعية.
لابد من التوافر على الحس التاريخي الموضوعي لفهم الحركة التي تدفق منها حدث تأسيس جمعية النهضة، وانسيابيته في الحراك المجتمعي، وحتى بلغت فيه النهضة ما بلغته نتيجة تراكمات أنشطتها وتفاعلها في المجتمع طيلة مسيرتها النضالية في العمل التطوعي وخدمة المجتمع عموماً والنساء خصوصاً.
ماذا يعني كل هذا لجدل؟
يعني إن الإقرار بأحقية وأولوية التأسيس لجمعية نهضة فتاة البحرين كأول جمعية تتأسس في البحرين العام 1955 وفي الخليج، بحاجة إلى التحرر من القيود المصلحية والتوظيفات الانفعالية المضخمة للذات على حساب الآخر، واعتبار الذات أمراً فوق الكل. ويعني أيضاً أن تاريخ التأسيس ليس عمليات ا
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 838 - الثلثاء 21 ديسمبر 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1425هـ