العدد 838 - الثلثاء 21 ديسمبر 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1425هـ

قصة الهراوة وبراميل النفط

جلود رقيقة جداً!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في العام 1976، كان أحد المدرِّسين العرب في مدرسة النعيم الثانوية للبنين يحمل هراوةً وقت الفسحة، ويقف للطلاب وهم مصطفون أمام المقصف يهدّدهم ويلوّح لهم بالهراوة ويضربهم على قفاهم، وفي أحد الأيام تجاوز حدوده ورفع هراوته وهوى بها على رأس أحد الطلاب، وكان هذا الطالب ممتلئ الجسم قوي العضلات، فما كان منه إلاّ أن اختطف الهراوة من يد المدرِّس المتنمر، ورفعها في الهواء وهوى بها على رأسه، ثم في حركةٍ سريعةٍ وجّه إليه ضربة أطاحت به على الأرض، وأخذ يتفنّن في إنزال الضربات عليه حتى تدارك المدرِّسون صاحبهم وأنقذوه بصعوبة من بين يدي الطالب الغضبان.

هذا المدرّس بعد ثلاثة أعوام بالضبط من تلك الواقعة التاريخية، شاءت له الظروف أن يلعب دوراً بارزاً في إصدار مجلةٍ تتغنى بأمجاد البعث العراقي في البحرين. ففي تلك الفترة ومع صعود نجم صدام حسين بعد الإطاحة برفاقه القدامى من حزب البعث وإعدام العشرات منهم ليتفرد بالحكم، كان بحاجة إلى تلميعٍ في الخارج، فجرت عملية شراء واسعة للذمم، كان ميدانها الأكبر الصحافة العربية، سواء داخل الدول العربية أو في المهجر. وظلّت الفضيحة تفوح روائحها قليلاً قليلاً، ولكن لم يكن هناك من يجرؤ على الكلام.

هنا في البحرين شممنا رائحة النفط العراقي في تلك المجلة/ الصحيفة البائدة، فمن الافتتاحية حتى الصفحة الأخيرة، كانت الكلمات تتغنى بأمجاد صدام حسين ومن دون مناسبة، قبل أن يصنع الإعلام العربي منه تلك الأسطورة التي انتهت بغزو الكويت الشقيق وتشريد شعبه وتفتيت جيشه وسلب أمواله وحرق آبار نفطه. وكان المدرِّس صاحب الهراوة هو الذي يقوم بكتابة غالب ذلك الغثاء.

ودارت الدنيا حول محورها 25 مرة، وفتح العالم عينيه على فرار المهيب الركن صدام حسين من ساحة المعركة إلى الجحر الشهير، وليسقط في الفخ أخيراً بعد أن دلّهم على جحره أحد أعوانه «المخلصين»! وانتهت بذلك أكبر الأساطير التي ساهم في ترويجها الإعلام العربي. أما الشعوب العربية الواعية التي كانت تعرف حقيقة هذا الحزب وحقيقة هذا الحاكم المستبد، فلم تفاجئها هذه التطورات، ماعدا من كان على بصره غشاوة، فاحتاج إلى وقت حتى يتبيّن الحقيقة من وراء الضباب.

وعلى رغم مرور عامٍ على وقوع صدام في الفخ بتلك الصورة المخزية وافتضاح أمره، مازال هناك من لايزال غير مصدق لما حدث. فعندما ذهب إياد علاوي إلى عمّان وقابل بعض أنصار و«محبي» النظام السابق، طرحوا عليه التهدئة خلال ست ساعات والمشاركة في الانتخابات مقابل إعادة الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها. وإذا كان هؤلاء «المحبون» معذورين في أحلامهم إلاّ أن هناك من لايزال يحلم بعودة الأب القائد الملهم هنا عندنا في البحرين وفي بعض البلاد العربية الأخرى، وطبعاً الموّال معروف: القومية والعروبة والأمن القومي... وباقي المعزوفة البالية التي لا تستر عورات الفلاسفة المغفّلين.

قبل عامٍ نشرت قائمة «براميل النفط»، وتوافرت هذه القائمة بأيدي المتابعين والعاملين في الإعلام بالخصوص، واحتراماً لسمعة الصحافة المحلية وستراً على المتورطين فيها، أثبت الجسم الصحافي في البحرين درجةً عاليةً من المسئولية بالتزام الحكمة القائلة: «إذا كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب». على أن هؤلاء المتورطين يحسبون أنفسهم فوق البشر، يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، فبإمكانهم سبّ من يريدون، والتهجم على من يشاءون، وعلى الضحايا أن يصبروا على حماقاتهم التي طالت واستطالت. وكانت الحيلة الأخيرة اللجوء إلى الشكوى، وإظهار «مظلوميتهم الكبرى» للناس، بعد أن أشبعوا ظهور الآخرين ضرباً بالسياط والهراوات.

ممثلهم القديم في مدرسة النعيم الثانوية للبنين في العام 1976، وبعد سنواتٍ من التنمر والاستئساد، انتهى تحت رجلي طالبٍ فاض به الكيل فلم يعد يتحمل «أونصة» إضافية من الإهانات، بعد سنوات من التطاول الفجّ على جموع الطلاب الصامتين، أما ممثلوهم الجدد فقد أصبحت أولوياتهم تقديم المتجرئين على الردّ على «معلقاتهم» ومقالاتهم «المقدّسة» إلى المحاكمة، فجلودهم أرقّ من أن تتحمل لسعة من النوع الخفيف

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 838 - الثلثاء 21 ديسمبر 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً