العدد 833 - الخميس 16 ديسمبر 2004م الموافق 04 ذي القعدة 1425هـ

المصالحة الوطنية بدلاً من العنف الطائفي

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

في الأفق سحابات من العنف الطائفي، أو الفتنة الطائفية، إن شئت، تظلل بكآبتها أكثر من دولة في المنطقة، فتهدد وحدتها في الأساس، أكثر مما تهدد استقرارها الراهن.

وهو عنف إن بدا اليوم صغيراً ومحدوداً، فهو مرسوم له أن ينمو ويشتعل سريعاً كالنار في الهشيم، فلا يبقي ولا يذر، لأنه يحمل بذور الشر التي يراد لها أن تنبت الصراع والاقتتال في المجتمع الواحد، يعقبه التقسيم والانفصال، وما أدراك ما بعد ذلك في طيات الأجندات الخفية، التي مازال البعض ينكر وجودها!

وما بين شرارات الفتنة الطائفية المحدودة في مصر، التي حاولوا اشعالها في الأسابيع الماضية من أسيوط جنوباً حتى البحيرة شمالاً، إلى اتساع هوة الشقاق الطائفي في العراق، تبدو خريطة المنطقة معبأة ببذور الشر هذه، مليئة بالألغام المتفجرة، المحلية منها والمستوردة، وهو أمر لم يعد الصمت والتجاهل فيه مقبولاً، ولم تعد الحلول الأمنية وحدها صالحة، لكن المقبول الوحيد والصالح الأساس في رأينا المتواضع، هو المصالحة الوطنية بكل شمولها وصراحتها، القائمة على أسس من العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، المستندة إلى مبدأ رئيسي هو حق المواطنة المكفول لجميع أبناء الوطن.

ولعلنا نبدأ برصد بعض الملاحظات، في ضوء ما يجري هذه الأيام.

أولاً: تعدد المتناقضات الكثيرة هو الحاكم لبعض أوضاعنا، وأول المتناقضات أوضاع غاب عنها العدل والمساواة في منطقة تعددت فيها الأديان والثقافات والطوائف والجذور العرقية، فبدت كلوحة الفسيفساء، تحتاج إلى «فنان» ملهم ليحافظ على وحدتها وتماسكها، فثمة أكثرية هنا أو هناك تحكم وتتحكم، من دون مراعاة الأقلية التي تشعر بالاضطهاد، وبالمقابل ثمة أقلية تحكم وتتحكم في مجتمع آخر فتمارس العنف ضد الأكثرية... وتبقى في الحالين مشاعر التوجس والاضطهاد والتمرد كامنة أحياناً متفجرة أحياناً أخرى.

ثانياً: تقسيم الدول والأوطان والشعوب في هذه المنطقة المعقدة، يزداد حدة يوماً بعد يوم بحكم تراكم المظالم بعد انقسام المشاعر، وها نحن في مواجهة معسكرين أو طائفتين في كل دولة من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق، ومن جنوب السودان حتى شمال العراق، وفي كل منها ثنائيات تبدو متناقضة، أو على الأقل متواجهة مستنفرة على النحو الآتي:

مسلمون ومسيحيون، عرب وبربر، عسكر ومدنيون، ليبراليون ومحافظون، شيعة وسنة، أكراد وعرب وتركمان، بدو وحضر، إسلاميون وعلمانيون، المرأة والرجل، وحدويون وانفصاليون، إلى آخر هذه السلسلة من ثنائيات التناقض، حاملة بذور الشر، ما لم يُفك تناقضها.

ثالثاً: إن كان طبيعياً أن تتعايش هذه التنويعات الدينية والطائفية والعرقية فوق أرضنا العربية بسلام وتسام وتوازن ومساواة، فمن غير الطبيعي أن تتناقض إلى حدود الصدام والقتال تمهيداً للتقسيم والتفتيت والانفصال. والحرب الأهلية الطائفية في لبنان التي استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً ليست ببعيدة، مثلما أن ما يجرى في العراق اليوم من فوضى وفرز مذهبي واقتتال يصل حدود الحرب الأهلية دليل صارخ آخر، بينما أوضاع السودان عاصفة صارخة، على مدى عقود طويلة، امتدت فيها الحرب الأهلية وحركات التمرد من أقصى الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، حتى بلغ عدد هذه الحركات وفق الإحصاءات الحديثة 31 حركة تمرد تحمل السلاح في وجه الحكومة المركزية، ضد ما تسميه «سياسات القمع العرقي والطائفي والعزل والتهميش والاضطهاد»...

رابعاً: من المسئول إذاً؟ المسئول الأول والأخير، هي حكوماتنا التي عمقت التناقضات وتجاهلت، أو ارتكبت المظالم، وفق أفكار خاطئة وسياسات قاصرة، ثم جاءت التدخلات الأجنبية ذات المطامع والمصالح، لتستغل هذه الأوضاع.

وليس إصدارها مثلاً قانون مراقبة الحريات الدينية في العالم، وتقاريرها السنوية عن حال حقوق الإنسان في الدول المختلفة، ثم ضغطها على المجتمع الدولي، لكي تقر الأمم المتحدة قرار التدخل الإنساني الدولي، الذي يتيح لمجلس الأمن التدخل عسكرياً في الدول الأعضاء التي تمارس الاضطهاد الديني أو العرقي خصوصاً، ضد بعض أبنائها... إلا دليلاً على الإصرار الأميركي أساساً على ممارسة التدخل وفرض الإرادة على الآخرين، استغلالاً لمعاناة الأقليات المضطهدة، وهو أمر سيتصاعد حتماً في المستقبل القريب!

خامساً: دخل حديثاً التعبير السحري الجاذب «الإصلاح الديمقراطي» على الخط مباشرة، باسم الديمقراطية والتحديث والتغيير، الذي تحارب شعوبنا طلباً له تلبية لحاجاتها الأساسية، وتمكنت السياسة الأميركية الطاغية من النفاذ المباشر إلى مشاعر كثيرين في بلادنا، باعتبارها صاحبة «الحملة التبشيرية الإلهية» الهادية للشعوب المتخلفة والمارقة والفاسدة، الساعية إلى إنقاذ المضطهدين ومساعدة المظلومين ومعاقبة الظالمين المستبدين!

وهذا أمر ظاهره حق وباطنه ظلم وكذب وعذاب، لأن الهدف الاستراتيجي الأميركي، ليس إنقاذ هؤلاء أو مساعدة أولئك، لكن الهدف هو إحكام القبضة الاستعمارية الأميركية على أوضاعنا وشئوننا، وإدارتها بالطريقة التي تحقق مصالحها هي دون سواها... ولابد أن نعترف أننا نحن الذين أعطيناها الفرصة وقدمنا لها المبرر فوق بساط أحمر ممدود على رقابنا...

العراق هو الآن الساحة المثلى لتطبيق هذه السياسات الاستعمارية الأميركية الجديدة، وراثة عن السياسات الاستعمارية البريطانية في الماضي... وهي ساحة مثلى لأن فيها كل عوامل التناقض والتفتيت العرقي والديني، الجاهزة للاشتعال في أي لحظة، غالبية إسلامية وأقلية مسيحية، غالبية عربية وأقلية كردية، وتركمانية وآشورية، غالبية شيعية وأقلية سنية، هذا أولاً.

وثانياً، موقع استراتيجي بالغ الأهمية أدركته كل الامبراطوريات الاستعمارية القديمة والجديدة، من الامبراطورية الفارسية، والرومانية، والعربية الإسلامية، والعثمانية في الماضي، إلى الامبراطورية البريطانية والأميركية حديثاً... موقع يتوسط العمود الفقري لقارة آسيا، يطل بحدوده على إيران وتركيا والجمهوريات الإسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي من ناحية، ويشرف على الخليج العربي، ثم هو يظاهر سورية أو بمعنى أدق منطقة الهلال الخصيب، ولا يقف عن حدود فلسطين، بل يتطلع نحو مصر، أي باختصار هو موقع يتمدد ويتطلع شرقاً من بحر قزوين إلى البحر الأحمر وقناة السويس غرباً... ولك أن تتأمل هذه الخريطة الرابضة فوق قلب آسيا وإفريقيا...

وثالثاً، لسبب أو آخر، لعبت فيه السياسات الأجنبي دوراً رئيسياً، انفردت «طبقة سنية» بالحكم في العراق، منذ استقلاله الحديث مطلع عشرينات القرن العشرين، وظلت متحكمة في الغالبية الشيعية كما في الأقليات الكردية والآشورية والمسيحية، حتى وصلت قمة الطغيان في عهد الرئيس المخلوع صدام حسين، الذي سقط تحت سنابك الاحتلال الأميركي الراهن، والذي قدم بظلمه وجبروته وعنفه أكبر المبررات الظاهرة للغزو الأميركي، وإن كان المبرر الرئيسي للغزو والاحتلال هو السيطرة على هذا الموقع الفريد والثري والاستراتيجي، كما سبق أن أوضحناه، وخصوصاً الاحتكار والهيمنة الكاملة على مخزونات النفط الهائلة الممتدة من شمال العراق إلى دول الخليج وشبه الجزيرة العربية...

وها نحن الآن، أمام معضلة جديدة، فباسم إقامة الديمقراطية الحديثة في العراق، لتكون نموذجاً مرغوباً «أو مفروضاً» لدول الجوار، يستعد الاحتلال الأميركي مع الحكومة المؤقتة التي نصبها، لإجراء انتخابات عامة مقرر لها يوم الثلاثين من شهر يناير/ كانون الثاني المقبل، لاختيار برلمان يضع دستور وأسس الحكم في «بؤرة الديمقراطية» حاملة البشرى للمنطقة.

والسبب هو حال الحرب القائمة وهي حال امتدت من مواجهة المقاومة العراقية قوات الاحتلال، إلى الاقتتال بين بعض الطوائف العراقية نفسها، ما فجر الصراعات على أسس طائفية ودينية وعرقية... أما السبب الثالث فهو المقاطعة للانتخابات التي أعلنها «السنة» من الموصل شمالاً إلى بغداد وبعقوبة جنوباً، امتداداً للأنبار غرباً، حيث تدور الآن المواجهات المسلحة، بينما ترى الغالبية الشيعية من ناحيتها وخصوصاً في مناطق الوسط والجنوب، والأكراد في الشمال أنها فرصة تاريخية لإجراء انتخابات عامة بأي ثمن - على رغم سيطرة المحتل الأجنبي - للوصول إلى الحكم بعد عقود من انفراد الأقلية السنية به...

وبصرف النظر عن إمكان توسع «القوس الشيعي» الحاكم من إيران إلى العراق، وربما امتداداً لسورية ولبنان، وإلقاء تأثيره الهائل على الخليج، فإن السياسة الأميركية المنفلتة تقامر مقامرة حمقاء جديدة، باصطناع «عمامة» ديمقراطية زائفة فوق بركان متفجر على الدوام، لأنها تريد من الغالبية الشيعية التي عانت التهميش في الماضي، أن تسحق الآن الأقلية السنية التي كانت حاكمة بالأمس، والمعنى أن يستمر الصراع بلا نهاية.

لاشك في أن هذا المشهد المأسوي، يعيدنا إلى بداية المقال، لنفهم جيداً أن تهميش الغالبية للأقلية، لا يقل خطراً عن هيمنة الأقلية على الغالبية، كلاهما يزرع بذور الشر وينبت زهور الشيطان والعنف الطائفي... فلماذا لا نعود إلى الأصول والقواعد القائمة على العدل والمساواة، عبر مصالحات وطنية حقيقية ودائمة

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 833 - الخميس 16 ديسمبر 2004م الموافق 04 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً