أتاحت المحاضرة التي قدّمها محيي الدين اللاذقاني، مساء الاثنين 6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بمركز الشيخ إبراهيم آل خليفة عن «الحلاج بين القرامطة والمتصوفة»، فرصةً نادرةً لإعادة طرح جملة من الأسئلة التي لا تني تستعاد كلّما جرى الحديث والبحث عن شخصية أبي المغيث وأطروحاته وإشكالية انتمائه السياسي والعقائدي. وعلى رغم أنني كنتُ أتوقّع من الباحث الكريم تقديم ورقة رصينة يتجاوز فيها ما طرحَهُ من قبل في كتابه «ثلاثية الحلم القرمطي» فإن ما حدث كان استعادةً من قبله لما كتبه في كتابه فيما يخص الحلاّج من دون أي تغيير تقريباً.
بقي الطرح عن انتمائه القرمطي هو هو... وبقيت الملاحظات والالتفاتات التاريخية هي هي... ولم يستطع ملامسة راهنَ وملابسات هذه الشخصية الإشكال، ولم يتقدّم خطوةً إلى الأمام في البناء على ما أسّس له من قبل بافتراضاته التي بنى من خلالها تصوره لحركة الحلاج، ومآلاتها والشخوص التي تناسلت منها في أخصّ ما يميزها عن سواها من الرموز التي صنعت حركة التاريخ الإسلامي، وأمدّته بزخم رمزي استطاع العبور على جسر من نيران العداء والإقصاء.
وإذا كان الحلاّج - والحال هذه - يبقى محلّ تنازع بين أطراف كثيرة، فإنه في المحصلة يقع في المنطقة الواصلة بين مختلف تيارات الرفض للسلطة، سواء منها الحركات المسلّحة - كما هي في حركة القرامطة، وكما يوصّفه محيي الدين اللاذقاني - أو ما كان منها مرتبطاً بالتصوف الاجتماعي كما يشير إلى ذلك هادي العلوي، أو ما كان يحاوله الحلاج نفسه من إظهار ارتباطه بالطرح السني من خلال بعض الروايات التي تتعرض لحياته. وسنجده، على رغم كل ما يمكن افتراضه، في النسخة الأخيرة من شخصيته قد ذهب ضحية رفضه للسلطة والنظام القائم آنذاك. وكانت قصة مقتله ملهمةً للكثيرين من مريديه، وخالقة لمخيال أسطوري ما فتئ يستعاد آناً فآنا.
وبالعود إلى اللاذقاني، سنجده يطرح رأيا غريبا، ولا ينطبق على حياة الحلاج، إذ أشار في محاضرته إلى أن التصوف بدأ يتسرّب إلى حياته في الطور الأخير منها... وهذا أمرٌ يحتاج إلى التحقيق والتدقيق؛ إذ المعروف أنه منذ صغره قد ارتبط بشخصيات صوفية، وقد تدرج ضمن مسارات العلم والسلوك بحسب ما لدى المتصوفة. أمّا نسبته إلى القرامطة، وإن وردت بعض الروايات التاريخية بشأن ذلك، فإنها تبقى افتراضاً يحتاج إلى إثبات. فالروايات إنما تشير إلى سجنه بتهمة «القرمطة» ومحاولة إدانته بها، وفرقٌ كبيرٌ بين هذا السياق وبين سياقٍ يزعم إثبات هذه التهمة عليه... هذا بغض النظر عن المتعارف عليه من أن كتّاب التاريخ كانوا نَقَلَةً بالدرجة الأولى، ولم يكونوا محققين.
جانبٌ آخر تمّت الإشارة إليه ضمن النقاش الذي أدير مع الضيف الكريم، ويتمثل في أنه ضمن بحثه عن الحلاّج قد زعم أن «ثلاثة أرباع ديوانه منسوب إليه»، وهو ما لم يأت بدليل عليه... إضافة إلى أنه قد استشهد للحلاج بأبيات ثلاثة يتيمة في سياق عرضه عن الصورة الفنية لدى شعراء القرامطة في كتابه... والأمر المثير حقا هو أن طبيعة البناء الفني واللغوي لدى الحلاج في هذه الأبيات، لا تنسجم ولا تلتقي مع بقية الشعراء الذين ضرب بهم المثل على أنهم شعراء قرامطة... وفي ذلك ما فيه من استغراب عن شذوذ الحلاج عن رفاقه إن صحّت نسبته إلى «القرمطة» إذاً.
الأمر المهم ضمن السياق الذي نحن فيه، هو أنه لم يجر الالتفات إلى طبيعة الطرح الفكري والروحي الذي يقدّمه الحلاج، متجاوزاً بمراحل ما كانت تقدمه الحركة القرمطية في لحظته. ولنا أن نرى إليه، حتى لو صحّت الافتراضات التي لا تزال تبحث عن أدلّتها، شخصيةً متعاليةً يصعب على الباحث تأطيرها وسجنها من جديد ضمن أفقٍ كانت تحاول تخليق نقائضه عبر طرح المحبة والفناء في المعشوق أو الاتحاد به.
يقول أبو المغيث:
مُزِجَتْ روحُكَ في روحي كما
تمزجُ الخمرةُ بالماءِ الزلالْ
فإذا مـسَّـكَ شيءٌ مَسَّـني
فإذا أنتَ أنا في كلِّ حالْ
العدد 825 - الأربعاء 08 ديسمبر 2004م الموافق 25 شوال 1425هـ