للإنسان طموحات كثيرة، بعضها يتحقق عن طريق الإصرار والمثابرة، وبعضها الآخر يتحقق عن طريق الحظ أو الصدفة. والسينما بالنسبة إلي كانت من ضمن طموحاتي في مرحلة الطفولة، إلا ان هذا الحلم قد انتهى وتناثرت اشلاؤه في خضم الانقلابات النفسية المتلاحقة في فترة المراهقة.
ودارت دائرة الزمن، وإذا بالقدر يهبط عليّ وأنا في هذا العمر المتقدم، ويجعلني أخوض تجربة غير متوقعة في عالم السينما لمدة ثماني ساعات، واجهت فيها حال الانبهار التي لم اكن قد عشتها من قبل، أو مقابلة من تتناقل أخبارهم وسائل الإعلام واستوديوهات هوليوود يومياً من أمثال المخرج العالمي المعروف أوليفرستون صاحب أهم فلمين أثارا ضجة واسعة في عالم السينما من قبل وهما «بلاتون» و«جاي. اف. كاي» وغيرهما، وكذلك الممثل البريطاني كولن فاريل الشاب الذي اطبق صيته في الآونة الآخيرة كل مكان بعد ان أصبح أحد أبرز ممثلي الأفلام التاريخية، وأيضاً نخبة أخرى من الممثلين المشهورين من أمثال انغلينا غولي التي لعبت دور الملكة أولمبيا والدة الاسكندر الكبير في الفيلم الذي اتحدث عنه وهو «الاسكندر الكبير»، إضافة إلى الممثل كرسيتوفر بلامر الذي لعب دور «ارسطو» وانوني هوبكنيز الذي لعب دور «بطليموس» وآخرين.
كان دوري في هذا الفيلم الذي صورت حوادثه في ثلاث بلدان خارج الولايات المتحدة، وهي: بريطانيا، المغرب وتايلند لا يتعدى بضع لقطات جماعية «كومبارس» كقاضي قضاة في القصر الملكي البابلي، ولعله قصر نبوخذ نصر في بابل، ولكن هذه اللقطات جعلتني انفتح على عالم كنت اراقبه من بعيد فقط، ولا اعرف عنه شيئاً عملياً يعمق في داخلي ثقافة هذا النوع من الفنون الإنسانية.
في أثناء العمل الذي استغرق أياماً عدة، شاركت في بعضها اكتشفت مجتمع السينمائيين والممثلين، وكنت كغيري يعتقد ان هذا المجتمع بطبيعته مجتمع طبقي اي ان المخرجين والممثلين الرئيسيين يشكلون شريحة لها خصوصيات وامتيازات تفوقية على البقية الباقية من المساهمين وربما أن هذا الأمر صحيح فيما يتعلق بالمراديد المالية، فيقال ان حصة المخرج من هذا الفيلم بلغت 5 ملايين دولار وحصة الممثل الرئيسي بلغت عشرون مليون دولار، والفيلم كلف في المحصلة 155 مليون دولار، ولكن هذا الحديث شيء والعلاقات الداخلية بين الممثلين والمخرجين، وهم عادة أكثر من واحد، كلهم يعملون تحت إدارة المخرج الأول وهو هوهنا أوليفرستون، شيء آخر.
فاستوديوهات «بن وود» في لندن كانت قد عجت بطاقم كبير من الممثلين، وربما يصل عددهم في القصر البابلي هذا إلى ما يزيد على الثلاثمئة ممثل، وكلهم تقريباً يتعاملون مع بعضهم بعضاً بروح الصداقة الأممية الحميمة، وإذا قلت الأممية فأعني ان هؤلاء الممثلين كانوا من الكثير من دول العالم، والعرب شكلوا جزءاً منهم، ومن بينهم ممثلون مغاربة معروفون في بلادهم. خلال العمل وفترات الاستراحة، يتلاشى الفرق الطبقي بين الممثلين، ولم أكن اتصور ان يتداعب معي أو يمزح أحد منهم، مثل بطل الفيلم كولن فاريل الذي كان في بعض المرات وخصوصاً أثناء فترة الاستراحة يسرع الخطى إليّ ويطلب مني سيجارة، أو يأتي كرسيتوفر بالمر ليعدل لحيتي الاصطناعية وهندامي الخاص، أو ان تأتيني ممثلة كبيرة مثل انغيلينا غولي وتدعوني للجلوس في مكانها، وتبقى هي واقفة وهذه المظاهر لابد ان تبقى عالقة في الذهن، وهي تعكس أخلاقية الفنان المبدع، فلا تسلط ولا فوقية في التعامل مع الآخرين المشاركين في العمل الواحد وان كان دورهم محدوداً.
القصر البابلي شيد في داخل الاستوديو، وكان قطعة فنية هائلة، وربما صرفت عليه الشركة المنتجة مبالغ طائلة، وتمنيت ان ينقل هذا القصر المطل على نهر الفرات وتحيطه مدينة بابل بزرقشاتها المتناثرة وأبراجها الجميلة وخصوصاً منظر برج بابل الشاهق، إلى مكانه التاريخي في بلاد ما بين النهرين ليكون النموذج الأصلي لبابل المخربة حالياً، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. في داخل العمل، كانت تظهر بعض المشكلات فقد صورت لحظة الخصومة بين الاسكندر واحد قادته العسكريين، واعيدت اللقطة أكثر من مئة مرة تقريباً، حتى فقد بطل الفيلم أعصابه، فانبرى يبكي وقام المخرج وبقية الممثلين بتأجيل التصوير، ومراضاة البطل حتى عاد إلى هدوئه وبدأ يصور اللقطة من جديد.
كما كانت من بين الممثلين إحدى الفتيات الزنجيات من بريطانيا، وكانت جارية وترقص مع بقية الفتيات في باحة القصر إذ جاء القيصر لزيارة القصر، والفتاة هذه ضمن طاقم «الكومبارس» ووجد المخرج أوليفرستون انها تجيد حركات التمثيل جيداً فنقلها إلى صف الممثلين الأساسيين، ووقع معها عقداً يسيل له اللعاب.
كثيرون من ممثلي «الكومبارس» حديثو العهد بالتمثيل، وبعضهم كان ينسى ملابسه أثناء العمل، وفي لحظات التصوير يشط للبحث عنها، فيؤدي ذلك إلى خلل في التصوير، ما يثير غضب المخرج والطاقم الفني، وهناك من يتعثر في ملابسه فيسقط أثناء جولة التصوير.
بعض الفتيات طالبات في مدارس اللغة الإنجليزية في لندن، وهن من جنسيات مختلفة، كل واحدة تتحدث بلغة، منها الهندية واليونانية والعربية والانجليزية والبولندية وغيرها، ولكنهن وبسرعة تعودن على بعضهن بعضاً فصرن يتفاهمن بكل تلك اللغات تقريباً.
وخلال العمل، تعرض البعض إلى حالات الإرهاق والتعب، فكانت عربة الإسعاف تحملهم إلى المستشفى، وبمرور الوقت يكتسبون مناعة تمكنهم من استكمال المشوار.
مجتمع متعدد الأجناس، بعضهم تعرف على البعض الآخر خلال أيام معدودة، وسمعت فيما بعد ان بعض الشباب من كلا الجنسين قد تزوجوا وكونوا عوائل وهم يعيشون في لندن حالياً.
كنت في بعض أوقات الاستراحة استعيد تلك الذكريات التي ربطتني بالسينما من باب الاهتمام، وتذكرت طفولتي، وكيف كنت اتردد على أول سينما في العراق وهي «سينما قدري» التي بنيت في بغداد بالقرب من الشارع الذي غزى صيته وسائل الإعلام والفضائيات العالمية في الوقت الراهن، وهو «شارع حيفا» الذي يسميه بعض المراسلين بـ «شارع الموت»، وكان هذا الشارع في مطلع الأربعينات والخمسينات قد قدم للثقافة العراقية نخبة رائدة من المبدعين ومن بينهم المسرحيين والسينمائيين، ولكنه الآن لا يمكن له بأية حال من الأحوال ان يصطف اسمه مع اسم «استوديوهات بن وود»، وان كان قد شهد حوادث الأفلام العراقية الأولى التي صورت في استوديوهاته الطبيعية وهي عبارة عن أزقة قذرة وبيوت قديمة تكاد تسقط لوحدها واناس هم من أفقر طبقات الشعب.
هذه هي الحياة، كلها مفارقات وحظوظ وفرص وأيضاً تباين بين الواقع
العدد 824 - الثلثاء 07 ديسمبر 2004م الموافق 24 شوال 1425هـ