«وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أَولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون» (المائدة: 104)
«وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون» (البقرة: 170).
القسم الأول: العرب في عالم يتحوّل
قليل من العرب من يفكر في معنى الدخول في القرن الحادي والعشرين، وأقل منهم من يتكلم في ذلك بصوت مسموع وأقل من القليل من يعرف على وجه التحديد تبعات المرحلة التاريخية الجديدة.
إن وعي الزمن - مثلما زمن الوعي - هو من علامات الحيوية في وجود الأمم. فبأي نوع من وجودية الوعي دخل العرب القرن الجديد؟ يقيناً... لا أحد بمفرده يملك الجواب على هذا السؤال الحرج. كل جواب ذي معنى لابد أن يصدر عن وعي جمعي وعن إرادة للتغيير. غير أن هذا الحرج لا يمنع ولا ينبغي أن يمنع المعنيين به من أن يرصدوا جهد طاقتهم التوترات التي يفرضها على العرب التحاقهم بالقرن الجديد وهم غير مهيئين للعب دور نشط فيه، بل هم لا يملكون رؤية جلية عن عواقب التحاقهم المباغت بالعصر الجديد.
إن كثيراً منا يتحدثون بتفاؤل عظيم عن مستقبل الديمقراطية في المجتمع العربي وإن بعضنا قد يحمله التفاؤل إلى المجادلة بأننا أمة ديمقراطية بالطبع وإن تراثنا الاجتماعي ديمقراطي على حين أن البنيوية الحركية للمجتمع هي العشيرة أو الطائفة الدينية.
لقد تباهى أحد الكتّاب العرب أخيراً بدور العشائر العراقية في عراق ما بعد صدام باعتبار أن هذه العشائر (تعتز بنسبها وأصولها وتحفظ في ذاكرتها تاريخ نزوحها من جزيرة العرب موطنها الأول واستقرارها في العراق أرض السواد وقد تعزز الانتساب إلى الأصول باعتباره فضيلة لا يضاهيها إلا بطولة الحرب «وبهذا تكون هذه العشائر خزانة القيم والتقاليد العربية الأصيلة وحاملة لواء الحرية والسيادة».
هذه معضلة حقاً، أن تكون عشائرياً وديمقراطياً في وقت معاً. الديمقراطية رابطة مجتمعية واسعة تؤدي إلى المواطنة على حين أن العشائرية أو القبائلية هي رابطة ضيقة بقيم ومصالح لا ضمانة على تكاملها مع المصلحة الوطنية العليا.
إن الديمقراطية - على خلاف ما يظن أو يتوهم كثير من الناس في البلاد العربية - هي مسئولية قبل أن تكون مكسباً. ولو كنا قد ربينا أجيالنا السابقة على معرفة النشأة الاجتماعية للديمقراطية الغربية لكنا اليوم في وضع أفضل لتقديم الديمقراطية أو ممارستها فعلاً ولأدركنا بشكل أفضل أن الديمقراطية تنامت من تعاظم الوعي بالمصالح الاقتصادية لشرائح المجتمع العامل وإنها كانت وسيلة من وسائل حفظ تلك المصالح وحمايتها وزيادتها، وهذا هو المنشأ التاريخي للعلاقة التضامنية بين قيام الديمقراطية وقيام التنظيمات النقابية في أوروبا في العصور الوسطى. مع انحسار النفوذ الاقطاعي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، نمت المدن الأوروبية نمواً سريعاً من حيث عدد السكان وانتشار الصنايع غير الزراعية.
كانت إحدى السمات المميزة للمدن الأوروبية في هذه الحقبة تآليف جمعيات مهنية بين أفراد ذوي مصالح مشتركة لحماية هذه المصالح سواء من سطوة حكومة المدينة أو من المنافسة الظالمة. لقد شمل الميل إلى التنظيم المهني والذي عرف باسم (النقابات Guilds) كل الناس من مغني الكنائس إلى رجال الدين والعلماء والفرسان والجنود والتجار والحرفيين من كل الأنواع.
لقد بدأت هذه التشكيلات المهنية كجمعيات طوعية ولكنها سرعان ما أخذت تفرض احتكارها على التجارة الخارجية بين حكومات المدن حتى استطاعت في نهاية الأمر أن تظفر بحق قانوني يخولها ذلك من الأمير الإقطاعي. ومن هذه الطريق أخذت هذه التنظيمات المهنية تفرض إرادتها على حكومات المدن.
من هذه البدايات المتواضعة قفز التجار إلى الثروة والقوة الاجتماعية والسياسية حتى أخذوا - بصفتهم طبقة وسطى بين الفلاحين والإقطاع - يشاركون أمراء الإقطاع ورجال الدين امتيازاتهم وقواهم السياسية.
لقد أفرز قيام النقابات نتائج ثقافية ومهنية غير متوقعة. لقد نظم (الصنّاع) أنفسهم في نقابات حرفية متميزة ليحموا أنفسهم من النوعية الواطئة في ظروف العمل ومن الأجور المنخفضة ومن رداءة الإنتاج ولهذا فقد عملت هذه النقابات على تعيين (مستويات الجودة) في البضائع والمواد الأولية الداخلة فيها والأدوات المستعملة في إنتاجها، وفرضت مستويات على أجور العمال وبيئة العمل مقيسة بمساحة محل العمل وعدد العاملين فيه. وكانت القوانين صارمة في معاقبة المتجاوزين على المستويات والموازين كما كانت شروط الالتحاق بالنقابة صعبة فكان يستبعد من النقابة كل من لم تثبت كفاءته أو أمانته. كان أعضاء النقابة يتمتعون بحقوق متكافئة وضمانات متساوية كما كان للنقابات جانبها الديني والأخوي فكان لكل نقابة محرابها الخاص في كنيسة المدينة وكان لكل نقابة أموالها الخاصة المكرسة للإنفاق على قسسها وأعضائها الفقراء والمرضى والمسنين كما شاركت النقابات في كثير من الأحيان في بناء الطرق العامة والمدارس وتنظيم الدفاع العسكري.
بهذا كانت الديمقراطية مسئولية بالدرجة الأولى وكان هذا المنشأ الجماعي التكافلي مصدر التحولات السياسية في المجتمعات الأوروبية والتي بلغت ذروتها في الثورة الفرنسية.
خلال القرون ذاتها لم يشهد العالم العربي تطوراً سياسياً. تحولت السلطة من الخلفاء إلى السلاطين وارتد الناس إلى مواريثهم القبلية والطائفية يلتمسون فيها الحماية من السطو أو الاستعباد. حتى مبدأ «الشورى» الذي جاء به الإسلام لم يعد قيمة سياسية فاعلة في تنظيم المجتمعات العربية، بهذا اندثرت قيمة سياسية عظمى وتحولت العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلى علاقة سلطوية درج الناس عليها ردحاً من الزمن طويلاً. لم تكن التحولات النقابية والسياسية هي التحولات الوحيدة التي شهدها المجتمع الأوروبي منذ القرن الثاني عشر. التحولات كانت متعددة الأشكال والمضامين. من تلكم التحولات:
في القرن الثالث عشر خرجت أوروبا من ثقافة الإقطاع إلى ثقافة النقابات وحكومات المدن.
في القرن الخامس عشر اخترع جوهان غوتنبرغ (الطباعة) وفتح الطريق إلى ثورة عقلية كانت بدايتها تيسير وصول الكتاب المطبوع إلى أكبر عدد من القادرين على القراءة والكتابة وكان من بعض آثار تلك الثورة نضج العقول لتقبل الثورة الدينية التي قادها مارتن لوثر وأدت إلى قيام الكنيسة البرتستانتية وبهذا انكسر احتكار الكنيسة الكاثوليكية للعقيدة المسيحية وتقلصت سيطرتها على الضمائر.
بين 1470م و1500م قامت حركة الرينسانس في كل من فلورنسا وجنوا (البندقية) في إيطاليا وبهذا انتهى اغتراب الأوروبيين عن جذورهم العقلية من أثينا وروما القديمتين، الاغتراب الذي دام ألف عام. وفي هذه الحقبة تم أول تلاقح فكري في الأعصر الحديثة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية إذ تبنى الغرب الأرقام العربية التي حلت محل الأرقام اللاتينية.
في القرن الثامن عشر:
() وقعت الثورة التحررية السياسية الأولى في العالم الحديث، الثورة الأميركية العام 1774م.
() في هذا القرن اخترع جيمس وات الماكنة البخارية العام 1769م.
() وفي هذا القرن وضع آدم سميث كتابه الشهير «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم An Enquiry Into The Nature And Causes Of The Wealth Of Nations » وطبع في سنة 1776م. في هذا الكتاب طرح سميث نظريتين قدر لهما أن تغيرا الفكر الاقتصادي الغربي (1) نظرية تقسيم العمل Division of Labour (2) إن قيمة السلعة المنتجة تأتي من الجهد الإنساني المبذول في إنتاجها وليس من المواد الخام ولا من الوسائل (الآلات) المستعملة في إنتاجها.
التحول الرابع: بداية الأزمنة الحديثة ومؤشرات التحول إلى «مجتمع المعرفة Knowledge Societi ». تميز هذا التحول بما يأتي:
اكتسب التحول - لعوامل كثيرة - صبغة عالمية ولم يعد هناك ما يمكن تسميته «حضارة غربية» خالصة.
أصبح لـ «التاريخ» مفهوم دولي.
ظهور اليابان كقوة عالمية.
ظهور الكمبيوتر الذي قاد إلى أن تصبح «المعارف» أو «المعلومات» أمراً مركزياً في حياة المجتمعات المعاصرة.
ووفقاً لدارسي الحضارة الأميركية (Peter Drucker مثلاً) فإن الاستجابة الأكثر ذكاءً لتحديات التحول الرابع تمثلت في قانون حقوق المحاربين في التعليم العالي G.I.Bill لقد أعطى هذا القانون لكل عائد من الحرب العالمية الثانية أو الحرب الكورية ذكراً كان أم أنثى الحق في التمويل الكامل لتعليمه (تعليمها) الجامعي في أي اختصاص كان. لقد كان هذا القانون مؤشراً أعظم على التحول إلى «مجتمع المعرفة» أو «مجتمع المعلومات». عملية التحول إلى «مجتمع المعرفة» لم تكتمل بعد والمتوقع أن يكون اكتمالها في سنة 2020م، ولكنها على كل حال قد بدأت فعلاً في تغيير القيم والمفاهيم السياسية والاقتصادية والأخلاقية في العالم.
لم يأت «مجتمع المعرفة» من فراغ. لقد كان مجتمعاً فعلت فيه المعرفة فعلها حقاً. خلال الـ 500 سنة بين اختراع غوتنبرغ للطباعة العام 1450م والعام 1955م تم طبع حوالي 300 مليون كتاب في العالم على حين أن السنوات الخمس والعشرين بين 1950م و1975م شهدت طباعة 300 مليون كتاب آخر.
لقد كان لثورة المعرفة آثارها البعيدة في تغيير نظم التفكير والعمل والإنتاج في المجتمعات الصناعية والتحول بها من «اقتصاد إنتاج السلع Economy of Goods» إلى «اقتصاد المعرفةKnowledge Economy » الذي كان من بعض نتائجه:
في سنة 1900م كانت الغالبية الساحقة من الأميركيين تعيش في الريف وتعمل في المزارع.
في سنة 1940 كانت غالبية القوة العاملة في أميركا تتألف من عمال المصانع الذين يشغلون المكائن وكانوا يعيشون في المدن. في سنة 1960 كان العدد الأكبر من القوة العاملة الأميركية يصنف تحت مسمى (الإداريين المهنيين) و(التقانيين).
في سنة 1980 وبعد ذلك كان هؤلاء الإداريون المهنيون والتقانيون هم الغالبية العظمى من القوة العاملة المدنية في الولايات المتحدة.
بعد الحرب العالمية
العدد 822 - الأحد 05 ديسمبر 2004م الموافق 22 شوال 1425هـ