قبل 91 عاماً قرر القضاء الروسي يوم 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1913، اتلاف مخطوطات الأديب ليو تولستوي التي تتناول قضايا سياسية ودينية، وحدث ذلك بعد وفاة تولتسوي بثلاث سنوات (توفي في 20 نوفمبر العام 1910 عن عمر يناهز 82 عاماً)، يومذاك لم تستطع روسيا تحمل إرث هذا الروائي العظيم، فقررت وبحكم قضائي اتلاف مخطوطاته، واليوم لم يعد العالم العربي يحتمل ما أنتجته الطفرة التكنولوجية، فبدأ بالتضييق على وسائل الإعلام المرئية بعد أن كاد يخنق مثيلاتها المقروءة، إذ كثيراً ما صدرت الصحف في بعض الدول العربية وفيها مساحات بيضاء نتيجة حذف الرقيب لمواد ومقاطع من أخبار ومقالات، وكثيرة هي الكتب الممنوعة في الدول العربية، وكثيرة هي المحظورات في كل دولة من هذه الدول، والأكثر من هذه وتلك المخاوف الساكنة أذهان الكتاب والصحافيين من العقاب وقطع الأرزاق إذا ما تعدوا الهامش المسموح لهم في التعاطي من خلاله مع قضاياهم الاجتماعية.
والمضحك المبكي في هذا الشأن أن تخاف الدول من قناة تلفزيونية أو صحيفة، فتقفل مكاتبها أو تعتقل مراسل الصحيفة، والأدهى في كل ذلك أن تخرج السلطات في دولة ما ببيان يبرر الاجراءات التي اتخذتها ضد هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك بـ «الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية»، وكأن الشعوب من الغباء إلى حد لا تستطيع فيه التفريق بين ما يثير القلاقل الأمنية ويهدد الوحدة الوطنية وبين بث أو نشر أخبار ما يجري في هذه الدولة أو تلك.
إن ما تمارسه سلطات المنع والتصريح في العالم العربي يتشابه إلى حد بعيد مع ما أقدمت عليه السلطات الروسية في العام 1913، فالمخالفة التي يرتكبها رجل الأمن وتحميها السلطة بمنع نشرها عبر وسائل الإعلام تسيء إلى السلطة وتضعفها، لأن ذلك سيؤدي إلى تململ الشعب وضيق صدورهم من أنظمة الحكم، ما يدفع إلى زيادة حدة المواجهة بين السلطة والشعب، وهذا يفسح في المجال أمام جهات من الخارج إلى التدخل بشئون هذه الدول ومطالبتها بالإصلاح السياسي وانتهاج الديمقراطية، وإذا ما رفضت ومانعت جعلت بنداً أساسياً على جدول أعمال الدول الأخرى، أي أنها تظهر بمظهر القاصر المحتاج للوصاية.
وإذا أمعنّا النظر في تجربتنا العربية، لوجدنا أننا أقدر على إدارة شئوننا من دون أية وصاية إذا ما تخلينا عن القمع كأداة حوار مع الآخر، ولتحقيق ذلك، علينا إدراك أن الإصلاح المدفوع إلينا من الخارج لن يعبر عن حاجتنا وهويتنا، إنما سيكون الأداة التي تقوّض نواة الدولة التي نعمل على بنائها، وستجعلنا لعقود طويلة نعيش تحت وصاية الآخر، وسنعود لنخوض حروب الاستقلال والتحرير من جديد، وستهدر ثرواتنا ودماء أولادنا وأحفادنا حتى نعود إلى ما كنا عليه قبل أن ندخل دوامة الديمقراطية المفروضة من الخارج.
يمكن للأنظمة العربية أن توفر علينا كل ذلك في حال أيقنت أن القمع والمنع لا يؤديان إلا إلى طرق مسدودة، وأنها في حال زادت هامش حرية الرأي والتعبير واتبعت الشفافية في سلوكها السياسي ستكون بمنأى عن أي فرض من الخارج وستصبح قوية في المواجهة، ذلك لأن الديمقراطية وحدها التي تؤدي إلى استقرار الدول وقوة الانظمة، وما عدا ذلك، لن يكون إلاّ الحجة التي ستلعب قوى الخارج على حبلها من أجل تحقيق مصالحها.
تولستوي مات، ورواياته لاتزال موجودة يتناقلها الناس عبر الأزمان، والامبراطورية الروسية سقطت في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1917، وجاء بعدها الحكم السوفياتي، هذا الحكم الذي أسقطه القمع والمنع والنفي إلى سيبيريا قبل أن تسقطه لعنات الرئيس الأميركي (وقتذاك) رونالد ريغان، وفي السقوط الامبراطوري انطفأت الكثير من الأسماء التي لمعت في سماء القيصرية، كما انطفأت أسماء كثيرة لمعت في سماء الاتحاد السوفياتي وبقي تولستوي لامعاً يتجدد مع كل قارئ لرواياته.
والواضح أن العرب ارتاحوا كثيراً للتأخر في كل شيء، وللقبول فوراً بكل ما يأتيهم من الخارج، فلقد مانعت الأنظمة العربية كثيراً في سماع الأصوات من الداخل الداعية للتغيير ولكن فور سماعها دعوة صادرة من موظف في وزارة خارجية إحدى الدول الكبرى، بدأت تتحدث عن ضرورة التغيير والتحديث والتطوير، وكأن الأصوات الصادرة من الداخل لا تتحدث باللغة نفسها التي تتحدثها الأنظمة، وما حدث لمخطوطات تولستوي كان واحداً من الإشارات الكثيرة التي دلت على التغيير الذي كان ينتظر روسيا وقتذاك، فهل نتعلم الدرس من غيرنا قبل أن يجرفنا التيار؟ هذا هو السؤال... لكن لا ندري من سيكون له الحق في الإجابة
العدد 819 - الخميس 02 ديسمبر 2004م الموافق 19 شوال 1425هـ
اروى
هذاجميل تعلمت الكثير من الاشياء هنا