تصعد الحكومة الأميركية تدخلها في شئون أوكرانيا الداخلية في مسعى لفرض مرشحها فيكتور يوتشينكو رئيساً للبلاد في وقت كشف فيه النقاب عن أن حملة المعارضة والاعتصامات والتظاهرات التي تقوم بها حركة الشبيبة الأوكرانية (بورا) دعما لـ يوتشينكو هي من صنع الولايات المتحدة، التي برع المختصون الأميركيون في العلاقات العامة واستطلاعات الرأي، ترويج وتسويق الدعاية الجماهيرية الغربية، التي استخدمت في أربع دول في أوروبا الشرقية لتنصيب أنظمة حكم موالية للولايات المتحدة.
فقد استخدمت هذه الحملة المنظمة والممولة من الحكومة الأميركية وبنشر الخبراء ورجال استطلاعات الرأي والدبلوماسيين من الحزبين الأميركيين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي والمنظمات الأميركية غير الحكومية في البداية في بلغراد بيوغسلافيا لإلحاق الهزيمة بالرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش في انتخابات العام 2000. وقبلها بسنوات بدعم بوريس يلتسين في روسيا في انتخابات العام 1996، إذ أنفقت الحكومة الأميركية أكثر من 500 مليون دولار لإلحاق الهزيمة بمرشح الحزب الشيوعي الروسي غينادي زيوغانوف كي تواصل الولايات المتحدة ومافياتها إلحاق الدمار في بنى الدولة الروسية.
وكان السفير الأميركي في بلغراد ريتشارد ميلر قد لعب دورا رئيسيا. وفي العام الماضي كرر، بصفته سفيرا للولايات المتحدة لدى جورجيا الخدعة نفسها في تبليسي مدربا لـ ميخائيل ساكاشفيلي الموالي لواشنطن في كيفية إسقاط إدوارد شيفارنادزة الذي تخلت عنه واشنطن بعد أن ازدادت فضائح فساد سلطته.
وبعد عشرة أشهر من النجاح الذي حققته واشنطن في بلغراد نظم السفير الأميركي لدى روسيا البيضاء مايكل كوزاك، وهو مخضرم في عمليات مماثلة في أميركا الوسطى وخصوصاً في نيكاراغوا حملة مماثلة لإلحاق الهزيمة برجل روسيا البيضاء القوي الكسندر لوكاشينكو، إلا أن المحاولة فشلت. وأعلن رئيس روسيا البيضاء أنه «لن يكون هناك كوستونيكا في روسيا البيضاء» مشيراً إلى الانتصار الذي تحقق للولايات المتحدة بلغراد.
غير أن الخبرة التي تم اكتسابها في صربيا وجورجيا وروسيا البيضاء كانت لا تقدر بثمن في مجال التآمر لإسقاط نظام حكم ليونيد كوتشما في كييف.
وكشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية في تقرير نشرته يوم الجمعة وجود مكتب قذر في قلب بلغراد يضم شبابا متعلمين على الكمبيوتر يطلقون على أنفسهم «مركز المقاومة باللاعنف». وإذا كنت تريد أن تعرف كيف تهزم نظام حكم يسيطر على وسائل الإعلام الجماهيري والقضاة والمحاكم وأجهزة الأمن ومراكز الاقتراع فإن شباب بلغراد النشطاء جاهزون لكي تستأجرونهم». وقد برز هؤلاء من حركة الطلبة المناهضة لميلوسيفيتش التي تسمي نفسها أتبور التي تعني المقاومة.
وأسلوب استخدام كلمة واحدة لتسمية هذه الحركات جاذب للانتباه وينطوي على المكر والدهاء وهو أمر مهم. ففي جورجيا، في العام الماضي، فإن حركة الطلبة الموازية كانت خمارة. وفي روسيا البيضاء كانت زبر، وفي أوكرانيا هي بورا التي تعني اللحظة الأخيرة. وإبتور كان لها أيضا شعار بسيط مؤثر ظهر في كل مكان في صربيا في العام 2000 وهو مكون من كلمتين هما «جوتوف جي» وتعنيان «لقد انتهى» وهي إشارة إلى ميلوسيفيتش. واستكملت عملية التسويق الدعائي بشعار لـ «قبضة» يد قوية باللونين الأسود والأبيض.
أما في أوكرانيا فإن الشعار المعادل لذلك هو «ساعة دقاقة» ما يشير أيضا إلى أن نظام حكم كوتشما أصبحت معدودة. وتعتبر الملصقات والرش بالدهان للشعارات ومواقع «بورا» على شبكة الانترنيت وشعارات التهكم والسخرية الهزلية أسلحة للنشطاء الشباب تهدف إلى تشجيع الناس على تحدي نظام الحكم في الشوارع، وقد حققت نجاحا ضخما في تنفيس الخوف الشعبي.
وفي العام الماضي، وقبل أن يصبح ساكاشفيلي المتعلم أميركيا رئيسا لجورجيا سافر من تبليسي إلى بلغراد لكي يتم تدريبه على أساليب التحدي الجماهيري.
وفي روسيا البيضاء، فإن السفارة الأميركية نظمت إرسال زعماء معارضة من الشباب إلى جمهوريات البلطيق حيث اجتمعوا مع الصرب القادمين من بلغراد. وفي حال الصرب، وفي ضوء البيئة المعادية في بلغراد، نظم الأميركيون عملية الإطاحة بنظام حكم ميلوسيفيتش من بودابيست وزيجد في جمهورية المجر المجاورة.
وفي الأسابيع الأخيرة فإن الكثير من الصرب سافروا إلى أوكرانيا، وقد تم إعادة أحد قادتهم وهو الكسندر ماريك من الحدود.
ومن أبرز المنظمات الأميركية الممولة حكوميا المتورطة في تنظيم وتمويل الحملة في أوكرانيا لصالح يوتشينكو، المعهد القومي الديمقراطي التابع للحزب الديمقراطي والمعهد الجمهوري الدولي التابع للحزب الجمهوري، ووزارة الخارجية الأميركية ومعها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وفريدم هاوس (بيت الحرية) ومعهد المجتمع المفتوح الذي يموله الملياردير اليهودي الأميركي من أصول مجرية، جورج سوروس.
ويتم استئجار خبراء أميركيين في مجال استطلاعات الرأي ومستشارين مهنيين لتنظيم مجموعات الضغط وفبركة معلومات مضللة واستخدام معلومات تتعلق بعلم النفس لرسم استراتيجية المؤامرة السرية. وقد عمد هؤلاء إلى استخدام النموذج الأميركي في التنبؤات المبكرة عن نتائج الانتخابات ونشرها على نطاق واسع مانحة يوتشينكو الفوز بهامش واسع يصل إلى 11 نقطة، ووضعوا جدول الأعمال للمزيد من تلك الأرقام، التي تعتبر حساسة لأن امتلاك المبادرة في المعركة الدعائية مع النظام يدفع بوسائل الإعلام إلى منح الدعاية حول فوز يوتشينكو المزعوم تغطية إعلامية واسعة وتجعل السلطة في موقف الدفاع بحث ستتهم بسرقة نتائج الانتخابات.
وفي العادة فإن الأميركيين من خبراء الانتخابات والاستطلاعات وصناعة الزعماء يعملون في العادة على توحيد المعارضة في الدولة التي يخططون لتغيير نظامها عن طريق صناديق الاقتراع، وراء مرشح واحد إذا كانت هناك فرصة لزعزعة النظام، ويتم اختيار الزعيم على أساس من البراغماتية والموضوعية، حتى لو كان مناهضا للولايات المتحدة في بداية الأمر. ففي صربيا اكتشف خبراء استطلاع الرأي الأميركيين في مؤسسة بين، شون وبيرلاند لاستطلاعات الراي أن زعيم المعارضة الموالي للغرب، زوران ديجينديك الذي كان قد اغتيل، كان يسب ويشتم في بلده ولم يكن له فرصة لهزم ميلوسيفيتش في الانتخابات. وكان قد اقنع للتخلي عن ترشيحه لصالح كوستينيكا الذي كان ينظر إليه كمناهض للغرب. وقد استغرقت العملية التي نظمتها ومولتها الولايات المتحدة للتخلص من ميلوسيفيتش عاما كاملا بدأ في أكتوبر/ تشرين الأول 1999 بكلفة رسمية بلغت 41 مليون دولار لكن المبلغ الحقيقي الذي أنفق يصل إلى أكثر من ذلك بكثير.
كما أن المسئولين الأميركيين كانوا أمروا أحزاب المعارضة في روسيا البيضاء بالتوحد خلف الشخصية القاسية المؤيدة لاتحاد التجارة، فلاديمير غونشاريك، نظرا لأنه ذو تأثير وسط دائرة لوكاشينكو الانتخابية.
ويعتقد الكثير من المحللين أنه لولا الضجة التي أثارها المراقبون الذين عينتهم ومولتهم مفوضية الاتحاد الأوروبي مشككين بنزاهة الانتخابات لأمكن تقبل نتائج الانتخابات بهدوء. فقد انضم إلى الولايات المتحدة في دعم يوتشينكو الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي بإعلانات مراقبيها الذين دفعت لهم رواتب ومكافآت مغرية، عن حدوث عمليات تزوير في الانتخابات لصالح يانوكوفيتش على رغم أن التقسيم الإثني والديمغرافي يمكن أن يسفر عن فوز يانوكوفيتش الذي أعلن فوزه بثلاث نقاط فقط، فيما كان خسر في الجولة الأولى من الانتخابات بنقطة واحدة. فالبلاد منقسمة فعلاً بين شرق وغرب حيث القسم الشرقي مؤيد له إلى جانب وجود 21 في المئة من السكان من القومية الروسية وهم يصوتون لصالحه، كما أن غالبية المسلمين من تتار القرم في جنوب أوكرانيا، الذين يصل عددهم إلى أكثر من ربع مليون نسمة قد صوتوا لصالحه.
ويؤكد محللون وخبراء أن ما يهم واشنطن هو أبعد من الخلاف حول الانتخابات وهو رؤية أوكرانيا وهي تنضم بهدوء إلى المعسكر الغربي والابتعاد تدريجيا عن روسيا. فالولايات المتحدة التي ترى في مد نفوذها في عموم الجمهوريات السوفياتية السابقة رهانا جيواستراتيجي، تنفذ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي هذه الاستراتيجية في تلك المنطقة عبر إقامة حزام من القواعد العسكرية والشراكات المتعددة، إذ توجد قوات عسكرية أميركية في منطقة قزوين وآسيا الوسطى. فمنذ أن نجحت في البداية بـ «اختطاف» جمهوريات البلطيق الثلاث: استونيا ولاتفيا وليتوانيا، وربطت جمهوريات آسيا الوسطى الخمسة بها، ومدت نفوذها إلى جورجيا، لم يبق لها لتطويق روسيا بالكامل سوى أوكرانيا وروسيا البيضاء. فأوكرانيا التي تقع على البحر الأسود تمثل أخطر بوابة جيوبوليتكية يمكن أن تفقدها روسيا بعد أن خسرت نافذتها الحيوية على البلطيق. ويقول مستشار الرئيس الروسي سيرجي ماركوف، «إن بوتين بالتأكيد مقتنع بأن الغرب يريد يوتشينكو رئيساً لسبب واحد: محاصرة روسيا».
والحجة التي تستخدمها الولايات المتحدة من أجل ذلك، هي الادعاء بتزوير الانتخابات ومناهضة الدكتاتورية. ولكن ليس ضد أنظمة موالية لها، والمراقبون يشيرون في هذا المجال إلى أذربيجان، التي تم فيها حديثاً توريث السلطة من حيدر علييف إلى ابنه
العدد 819 - الخميس 02 ديسمبر 2004م الموافق 19 شوال 1425هـ