يبدو أنّ ندوة «ذاكرة الحداثة» التي أحياها الفنان عبدالله يوسف في أسرة الأدباء، مساء الأحد 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قد أخذت مناحي متعددة على صعيد تلقي ما طرح فيها، وبالخصوص مسألة النظرية والناس التي تم التأكيد عليها من زاويتين مختلفتين مراراً وتكراراً، وأشرنا إلى جانب من ذلك عبر مقالتنا السابقة.
ولكنّ الأمر المثير حقّاً على صعيد التلقي هو ما نلحظه من تلقٍّ سلبي لما تم طرحه والتأسيس عليه، ولعل أوضح مثال على ذلك ما كتبه الزميل كريم رضي تحت عنوان «فوبيا النظرية» ونشره بصحيفة «الميثاق» بتاريخ 28 نوفمبر الماضي. ولا أعلم حقّاً كيف تلقّى كريم رضي طرح عبدالله يوسف عبر تأويلية حنبلية، تذهب إلى ظاهر الكلام وتصرف وجهها عن ظلاله وبواطنه، ليجد في آخر الأمر أن المنتدِي قد وقع في فخّ «الطرح الشعبوي» للأمور، وهي تهمة ليست بالهينة، ولا يمكن المرور عليها مرور الكرام، من دون إعمال النظر والتحقق، وإلا فإن ما قدّمه عبدالله يوسف سيذهب هباء منثوراً، وسيكون معبّراً عن تجربة ضحلة للغاية من الناحية النظرية، والحال أن ذلك بعيد جدّاً عن حالة يمثلها عبدالله يوسف وينتمي إليها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود من العمل والإبداع المضني الجاد والصارم.
لم يكن عبدالله يوسف، على الإطلاق، يؤسس ويبرر لهروب مشين من مواجهة النظرية والاكتفاء، فقط، بما يطرحه من أعمال وإبداعات... وإنما كان يلتفت عبر ورقته المثيرة التي قدّمها في أمسيته إلى جانب آخر، كنّا قد أشرنا إليه من قبل. كان عبدالله يوسف، عبر أحكام قاسية، واستثمار وتأمل في مسار تجربته الخاصة وتجربة زملائه وأقرانه التي امتدت نحو ثلاثة عقود، يعود بنا إلى السؤال الأولي الذي يبقى سؤال كل تجربة حقة وجديرة بالاحترام مهما قدّمت وحققت من إنجازات. ولن يكون الحديث عن مثل هذه التجربة عبر المراجعة الأساسية التي أجراها عبدالله يوسف حديثاً سطحياً مفعماً بحس «الشعبوية» أو ما كان يؤكد عليه صاحبنا عبر مقولة «الناس» التي أحدثت من الالتباس لدى الآخرين ما يمكن لنا أن نستدل عليه بمثل ما طرحه الزميل كريم رضي.
حينما يقول عبدالله يوسف، مثلاً: «وخلق لوحة يعني عندي تأسيس حيز بصري جديد للناس من أجل رؤية تكوينات وخطوط وألوان معبأة بموضوع اجتماعي إنساني تاريخي أو معاصر أو ما اختزنته الذاكرة، من دون الادعاء بمنهج معين للرسم وفق الأساليب والمدارس والطرق المعروفة... فغالباً ما أنهي اللوحة لأجدها خليطاً من الأساليب والمدارس مما يستثير تهكم فنانين آخرين يضعون لكل لوحة قيداً وشروطاً من سلاسل الواقعية والواقعية الجديدة/ التأثيرية/ السريالية...» فذلك إنما يعني شهادة إدانة لتطرف يراه هو من رفاقه وزملائه ومن هو مهموم بنفس همومه. التطرف في الذهاب نحو النظرية التي تسحق حسَّ الفنان وتصادر فطريَّتَه.
وها هنا نجد عبدالله يوسف في لحظة نقيضة لما كان يتخايل للمتلقي في تلك اللحظة من أنه يدين الذهاب نحو الذات ومغادرة الآخر إدانة مطلقة وساذجة. وذلك ما تلقّاه الكثيرون من كلامه الذي أدان فيه عموم المشهد في إيغاله في ذاتيته الفردية. لذلك نجد أنه على رغم إدانته تلك إلا أنه لم ينس أبدًا أنه فنان يمتح من بئر الذات التي هي مثال لذوات متكثرة على صعيد الواقع. وفي الوقت نفسه، يرفض كل ما يمكنه أن يضع قيدًا مسبقاً على يديه. وهذا لا يعني، بالضرورة، أن نكون موافقين له على ذهاباته وآرائه التي كانت متطرفة في طرحها السابق، وفي إداناتها القاسية للمشهد بعمومياته؛ إذ لنا رأي آخر بشأن ذلك ربما أتاحت الظروف إبرازه فيما هو آت إن شاء الله تعالى.
إن هذه الإدانة المتطرفة، في لحظتها، من قبل عبدالله يوسف، وإلحاحه المستميت على ضرورة إعطاء «المتلقي» حجمه المناسب في المعادلة الإبداعية، والتفاته إلى أن بعض الفنون لا حياة لها إلا بالناس، مع الالتفات إلى أنه يستدرك على ذلك من خلال الاستشهاد السابق... كل ذلك لا يعني، أبداً، ما ذهب إليه كريم رضي من تفسير وتأويل وتحميلٍ لكلام عبدالله يوسف ما لا يحتمله، وما لا ينسجم مع إنجازاته وعطاءاته في التشكيل والتلفزيون والمسرح. وعلينا أن نلتفت إلى أن المشهد الإبداعي العربي، بعد هذه السنوات من العمل والإنجاز يحتاج إلى إعادة طرح الأسئلة عن ما اعتبر مسلّمات لا تقبل الجدل والنقاش. كما علينا أن نلتفت، أيضاً، إلى أن مثل تلك الأسئلة هي التي بإمكانها، فقط، ضخ الدم في عروق المؤسسات والأفكار، بخلق فسحة مغايرة للإبداع. وليس لرؤية معينة أن تفرض نفسَها مصادِرة على الآخرين رؤاهم مهما كان العنوان الذي تندرج تحته هذه الرؤيا أو تلك.
ولنا أن نؤكد - مادام الحديث قد أخذ مناحي متعددة - أنّ أسرة الأدباء تتسع لاستقبال مختلف الأفكار والطروحات، وقس على ذلك الأعمال الإبداعية، بشرط الارتهان إلى التميز والابتعاد عن المصادرة. وضمن هذا الأفق لنا أن نعيد قراءة تاريخ أسرة الأدباء وإنجازاتها ومعاركها، سواء أكنا مع هذه الرؤية أو وقفنا في الموقف النقيض
العدد 818 - الأربعاء 01 ديسمبر 2004م الموافق 18 شوال 1425هـ