تزدحم الساحة هذه الأيام بأحاديث الانتخابات، فأكثر من دولة في المنطقة أجرت أو ستجري انتخابات، وسط هوجة شديدة، هبت رياحها العاتية من أكثر من اتجاه، ربما تكون الانتخابات الفلسطينية يوم التاسع من يناير/ كانون الثاني المقبل، ثم الانتخابات العراقية في الثلاثين من الشهر نفسه، هي الأكثر جاذبية لأسباب متعددة، لكنها تأتي في الحقيقة ضمن إطار هوجة الانتخابات العربية، التي لم تصل بشكل عام إلى درجة الشفافية والنزاهة، التي تضعها في تصنيف الانتخابات الحرة. وقبل أن نغوص في أعماق تيارات هذه الانتخابات، بحسناتها وسيئاتها، نود أن نرصد بعض ملامح الهوجة الجارية، فقبل أشهر قليلة أجريت الانتخابات في كل من تونس والجزائر، وفاز فيها الرئيسان زين العابدين بن علي، وعبدالعزيز بوتفليقة، وكان المفروض إجراء انتخابات رئاسية في لبنان، لكن تم التمديد للرئيس اميل لحود، بتوافق حكومي لبناني - سوري كالعادة، وستجري انتخابات برلمانية في لبنان العام المقبل أيضا في ظل تعقيدات داخلية وضغوط خارجية.
والعام المقبل الذي سيبدأ بعد اسابيع، سيكون عام الانتخابات العربية بحق، بصرف النظر عن صدقيتها ونزاهتها، ففي يناير ستجري الانتخابات في فلسطين لاختيار رئيس جديد للسلطة الفلسطينية بعد رحيل الزعيم عرفات، وفي العراق ستجري الانتخابات العامة لاختيار مجلس وطني يمهد لوضع دستور وتعيين حكومة جديدة، قد تنقل العراق إلى مرحلة سياسية مختلفة، وفي الحالتين الفلسطينية والعراقية، فإن الانتخابات تجري فيهما تحت حراب الاحتلال الاسرائيلي من ناحية، والأميركي من ناحية أخرى، وهنا يقع التساؤل الحق عن مدى مشروعية وصدقية انتخابات حرة في ظل احتلال أجنبي، يسلب - أول ما يسلب - الإرادة والسيادة!
وفي الربع الأول من العام المقبل أيضا، تشهد السعودية أول انتخابات في تاريخها، وهي انتخابات المجالس البلدية، في ظاهرة جديدة ربما تفتح الأبواب لما هو أوسع وأعمق.
ولن ينتهي العام إلا بنوعين من الانتخابات في مصر، إذ المقرر إجراء انتخابات رئيس الجمهورية من ناحية، وانتخابات البرلمان الجديد من ناحية أخرى، وفي الحالتين أيضا تثور الأسئلة المشروعة، بشأن تعديل نظام الانتخابات، سواء الرئاسية أو البرلمانية، لضمان أكبر قدر من الحرية والتعددية والشفافية والمشاركة.
وحين ينظر المرء في هوجة الانتخابات هذه وغيرها، قد يشعر بأن البلاد العربية تعيش ربيع الديمقراطية وسط أزهار الاصلاح والتغيير، واطلاق الحريات العامة، وتداول السلطات، وإلا فما جدوى كل هذه الانتخابات؟ غير أن الحقيقة الواضحة لكل متبصر تقول إنه ليس بالانتخابات العربية هذه تتحقق الديمقراطية في بلادنا، خصوصا حين نعلم مدى ما يعلق بهذه الانتخابات من اتهامات شبه ثابتة، بالتزوير والتزييف والتجميل الشكلي، بعيدا عن المعايير الموضوعية، المتعارف عليها في العالم كله.
وربما يكون أحد أهم أسباب تدافع النظم الحاكمة لاجراء انتخابات ما هذه الأيام، هو وقوعها بين مطرقة الضغط الأميركي والأوروبي عليها لاجراء اصلاحات ديمقراطية، وفق وصفات معينة، وبين سندان الحركة الشعبية المحلية الساعية للتغيير والاصلاح وفق مصالح وطنية وقومية، وقد استفادت هذه الحركات الداخلية بلاشك من الضغوط الخارجية، وبالقدر نفسه تحاول النظم المتشبثة بسلطاتها أن تفلت من الضغوط المزدوجة للمطرقة والسندان، بأقل قدر من الخسائر، تعبيرا عن قصور حقيقي في التفكير وفقر واضح في التدبير، فإن نجحت في كبت الداخل فكيف تنجو من ضغط الخارج وإلى متى؟!
والنصيحة الصادقة التي يمكن أن تقدم في هذا المجال، هي أن تتخلى نظمنا الحاكمة عن تجاربها السابقة مع الانتخابات، التي كانت تديرها بسلطتها وفق ما تريده، فيتم الطبخ من الألف إلى الياء، وتأتي النتائج حاملة كل الاوزار والأمراض التي صرنا نحفظها ونكررها، ذلك أن عملية الطبخ والسلق هذه لم تعد تصلح في عالم اليوم الذي يراقب الانتخابات بعيون واسعة، خصوصا من جانب الدول الكبرى التي ترفع شعارات نشر الديمقراطية، وتملك امكانات مراقبة ما يجري في الدول الأخرى بدقة شديدة، ثم تصدر بعد ذلك شهادات حسن السير والسلوك، أو شهادات الادانة والعقاب والحرمان!
وبالدرجة نفسها لم تعد شعوبنا تقبل بالاستمرار في مشاهدة مسرحية الانتخابات المعلبة والمعروفة نتائجها سلفا، والتي تعلن الفوز المؤزر عادة بنسب تفوق الـ 90 في المئة، لأن القبول بما هو أقل يعد انتقاصا من الهيبة وقوة النفوذ، وأتصور أن شعوبنا قد سحبت صكوك الشرعية وشهادات الصدقية من مثل هذه الانتخابات، باتخاذ المواقف السلبية، أي بالمقاطعة وعدم التصويت، على رغم أنها تعلم ان الأمر سيان، سواء صوت الناخبون أو امتنعوا. وأتصور أيضا أن اللعب في الانتخابات وطبخها سلفا، لم يعد ممكنا أو مسموحا به، من جانب الضغوط الخارجية أو الداخلية، ذلك لأن شرعية الحكم في أي مكان الآن، تنبع من انتخابات عامة حرة نظيفة نزيهة تحت سمع العالم وبصره، ولم تعد الشرعية الحاكمة - كما كانت في الماضي - تنبع من قوة العائلة أو القبيلة، أو من حق الوراثة، أو من سطوة المال وقوة النفوذ.
هكذا جرت انتخابات معلنة أخيرا في دول افريقية صغيرة وفقيرة، لتثبت أن حرية الانتخابات العامة وشفافيتها هي مصدر الشرعية الحقيقية لأي حكم، على رغم الازمات الاقتصادية وضغوط الفقر والتخلف والتحالفات القبلية والطائفية وربما التعقيدات الدينية، وها هي أكبر دولة اسلامية من حيث عدد السكان، اندونيسيا، تنتهي أخيرا من انتخابات عامة جرت في إطار ديمقراطي حقيقي، لتسفر عن فشل رئيسة البلاد ميغاواتي سوكارنو ونجاح منافسها المعارض، ولتثبت ان الديمقراطية لا تتعارض مع الاسلام كما يشيع البعض!
واذا كانت هذه التجارب الديمقراطية المتعددة، تعطي لنا الاشارات وتقدم المعاني في هذا التوقيت الحرج بالذات، فاننا في الواقع أمام مشروعين لانتاج أو إعادة انتاج الانتخابات العربية الراهنة.
المشروع الأميركي لنشر الديمقراطية وفق مبادئ مشروع الشرق الأوسط الأوسع، الحامل لوصفة يراها اصحابها سحرية، لتطوير وتحديث المجتمعات العربية والاسلامية، المصابة بالفساد والاستبداد، والتطرف وتفريخ الارهاب، وقد بدأت أولى خطوات هذا المشروع بانتخابات أفغانستان التي جرت الشهر الماضي، والتي جاءت بالرئيس نفسه الذي سبق ان نصبته دبابات الغزو الأميركي بعد دخولها!
أما الخطوة الثانية فهي التي ستتم من خلال انتخابات العراق المقرر لها 30 من يناير المقبل، والتي نجحت أميركا في انتزاع غطاء شرعي دولي لها من خلال مؤتمر شرم الشيخ الأخير، وسط تهليل اعلامي وسياسي واسع، بأن انتخابات العراق ستكون نموذجا للديمقراطية يجب ان يحتذى من دول الجوار، بينما يعرف الجميع انها مثلها مثل انتخابات أفغانستان، تجري تحت قيادة الاحتلال الأميركي ووفق مخططاته وأهدافه ووسائله، ما يفقدها شرعيتها الوطنية والقانونية!
أما المشروع الثاني، فهو المشروع الحكومي العربي، الذي يصر على التمسك بالسلطة والثروة، بالحكم والحكمة، بالقرار والسياسات، من دون اعتراف حقيقي بتعددية القوى في المجتمع، وبحرية الناس في اختيار من يحكمهم، لكن في سبيل التهرب من الضغوط الخارجية، وخصوصا المشروع الأميركي الذي أصبح في صحن الدار، وفي سبيل مراوغة المطالب الشعبية الوطنية، تحاول الحكومات تجميل شكل الانتخابات وتغيير أساليب التدخل فيها، واصطناع ممثلين لقوى تحت السيطرة، لكي تشارك أمام مراقبة العالم، في لعب الأدوار المطلوبة!
وبقدر فجاجة المشروع الاول لأنه في الاساس مشروع احتلال أجنبي سافر، فإن سذاجة المشروع الثاني لا تقل فجاجة، لانه يعكس قصر النظر التاريخي وغيبة الوعي، وعدم قياس التحرك الشعبي المطالب بالاصلاح والتغيير، وعدم تقدير اندفاع الضغط الأميركي نحو هدفه، بمقياس موضوعي صادق، والا لكانت المواقف مختلفة، والسياسات والتصريحات اللولبية قد تغيرت!
والدليل ان السمات المشتركة والأمراض المزمنة التي تحملها الانتخابات العربية، مازالت قائمة ومستمرة، فهي جميعا، وفق الخطاب الاعلامي السياسي الرسمي، حرة مئة في المئة، وهي في الوقت نفسه مطعون فيها أمام المحاكم، مشكوك في نزاهتها امام العالم، ونتائجها كما نعرف لابد ان تفوق نسبة الـ 90 في المئة، والمشاركة يجب ان تعلن انها فوق 80 في المئة بينما الكل يعرف انها ارقام مبالغ فيها بل مزورة لأن نسبة المشاركة في الغالبية الأعم لا تصل الى 20 في من الناخبين، بسبب فقدان الثقة وغياب الصدقية.
ولم يكن ذلك ليحدث الا في بيئة مناقضة للديمقراطية ومعادية للحرية، نجحت بالتراكم في وضع آلاف الموانع والعقبات امام اجراء انتخابات نظيفة نزيهة، تتنافس فيها القوى السياسية الاجتماعية بحرية، وهي عقبات تمتد من ترسانة القوانين والموانع السياسية الى تداخل السلطات وهيمنة السلطة التنفيذية والاحزاب الحاكمة على مجمل العملية الانتخابية مع غياب أو ضعف الدور الرقابي، سواء للسلطة القضائية، أو للصحافة والاعلام الحر، وتصل بالضرورة الى هيمنة الحزب القائد أو الرائد أو الواحد، وسطوة الزعيم الأب شبه المقدس، ومن ثم تضاؤل باقي الاحزاب وضعف الجماعات وتهميش القيادات الأخرى، وعلى المتضرر ان يلجأ الى القضاء أو الى الفضاء!
فاذا ما ظلت هذه السمات المشتركة والأمراض المزمنة ممسكة بزمام الانتخابات في بلادنا، فما جدوى اقامتها الآن أو غداً، بل ما جدوى الاصلاح الديمقراطي او حتى الحديث عن التغيير والتحديث والتطوير، ان ظلت صناديق الانتخابات مشكوكا في محتواها وان بقي تداول السلطة بين متنافسين حلما بعيد المنال، وان استمر الناخبون على امتناعهم وسلبيتهم احتجاجا صامتا!
أظن انه قد آن الأوان لتغيير حقيقي واصلاح جذري لمجمل الأوضاع العامة، يزيل كل هذه السلبيات والمعوقات من طريق التقدم، وساعتها يمكن ان نبدأ الحديث عن انتخابات نزيهة... نظيفة!
خير الكلام
يقول الأخطل الصغير:
غنيت للشرق الجريح وفي يدي
ما في سماء الشرق من أمجاد
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 818 - الأربعاء 01 ديسمبر 2004م الموافق 18 شوال 1425هـ