الأداء السياسي للقوى السياسية المعارضة إما أن يكون أدبياً صرفاً عبر الخطابات والفعاليات المنفعلة بالحوادث والتطورات التي تفرضها كل مرحلة تمر بها العملية السياسية، وذلك في حال الانكفاء عن المشاركة في المساحة المتاحة لذلك؛ أو يكون هذا الأداء عبر مشاركة فعلية في رسم الخريطة السياسية للمجتمع من خلال الفعل والسلوك الذي يترك آثاره على مخرجات العملية السياسية من خلال توظيف آليات المشاركة.
بالتعرض لجدلية المشاركة والمقاطعة في الانتخابات النيابية، مع كل ما يؤخذ على الدستور الجديد وتوزيع المناطق الانتخابية غير المتكافئ وغير ذلك، إلا أنني أكنت أردد آنذاك: «نعمٌ للمقاطعة ونَعَمَان للمشاركة».
نعمٌ للمقاطعة لأنني اتفق مع المقاطعين فيما أسسوا عليه موقفهم من أسباب واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، إذ لا يصح التنكر لصحة الأسباب. كما أن ما طرحوه ليس فيه حجة واهية أو مردودة وإنما نظروا نظرة فاحص حصيف، وقارئ متأن للواقع في ذلك الحين، بكل معطياته واستحقاقاته. إلاّ أن ما دعاني للقول نعم مرتين للمشاركة، هو أن استشرافهم للمستقبل تم بالنظر لما تستتبعه تلك المعطيات والاستحقاقات، ولم تتسع تلك النظرة أو القراءة لما قد يطرأ من عوامل مستجدة على الوقائع من تلك المرحلة، فتتغير النتائج الماثلة في أذهان المقاطعين إلى نتائج لم ترتسم في أذهانهم لكون أرقامها لم توضع في معادلة الاحتمالات المتوقعة.
جاءت التجربة البرلمانية بتضحيات المناضلين من أجلها إذ مرّت هذه النضالات بمنعطفات صعبة منذ التجربة الأولى التي أجهضتها الحكومة آنذاك في العام 1975، والى أن توافقت إرادة جلالة الملك وإرادة القوى الشعبية المطالبة بهذه الحقوق في العام 2001. أي أن هذا المُخرَج هو من نتاج ذلك الفعل السياسي على رغم قسوة المؤسسة الاستخباراتية المستندة إلى قانون أمن الدولة، فانتج هذا المعطى وان لم يكن كما أريد له.
أسئلة نطرحها كمدخل لعرض فكرة خطأ الانكفاء عن المشاركة والتزام المقاطعة:
- هل أن كل فعل سياسي، بحسب الثقافة السياسية السائدة، يحقق نتائجه بدرجة مئة في المئة؟
- ألم يدخل النبي (ص) حروباً ومعارك وغزوات وانتصر جيشه في بعضها ولم ينتصر في البعض الآخر؟ ولماذا لم ينكفئ عن خوض تلك التي لن يتحقق فيها النصر؟ هذا والنبي (ص) أقدر سياسي وأنجح قائد على الإطلاق.
- ألم يضع المجلس التأسيسي المنتخب في العام 1973 دستوراً وصدّق عليه أمير البلاد حينها الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وعمل المجلس الوطني بهذا الدستور لمدة عامين، وتعثّرت التجربة لأسباب خارجة عن كون الدستور مقبولاً أو مرفوضاً؟
- ألم يقدم أبناء هذا الوطن كل ما يستطيعون من أجل استرداد الحقوق على مدى ثلاثين عاماً، وجاءهم في اللحظة الأخيرة دستور لم يتخيّل ملامحه حتى اللحظة الأخيرة أحد من السياسيين أو المراقبين؟
- ما الخطة التي اعتمدها المقاطعون، فيما لو استمر الحال على ما هو عليه من دون أن يتغيّر؟
إذن بكل الجهود الموجهة وغير الموجهة، المخطط لها وغير المخطط لها، لا يستطيع أحد الجزم بنتيجة معينة، نعم يستطيع التوقع ويتخيّر من التوقعات ما يشاء فيما ستؤول إليه الأمور، أما أن يجزم بهذا التوقع أو ذاك، فهذا مما لم تعهده المساحة السياسية في أية جغرافية ولا في أي تاريخ في عالم البشرية. ومن هنا فإن تواتر المستجدات على أية عملية سياسية تفرض تكريس المشاركة والحضور الفاعل بما لا يدع مجالاً لخيار المقاطعة.
انكفأ عن المشاركة كل من قدم لهذه التجربة تضحيات جساماً على مدى عقدين ونصف العقد، وكأن نوحاً (ع) صنع السفينة وتركها لربان آخر! وشارك في هذه التجربة بعض من لم يقدم شيئاً أصلاً، بل إن بعضهم ممن سلّط سهام النقد على من ناضل من أجل حياة حرة كريمة لهذا الشعب. وجاءت فرصة مشاركته بسبب غياب العناصر الكفوءة والمؤهلة لخوض التجربة في مهدها لتقويمها وترشيدها.
فلا المشاركون حققوا شيئاً، كما لم يتحقق شيء بانكفاء المقاطعين، ومازالت التجربة تراوح مكانها، على رغم مرور عامين من عمر هذا الشعب وتطلعاته.
هل يريد المقاطعون أن يتعاطوا مع الشأن السياسي مع فرض حَجرٍ على السلطة في أن تفرض أجندتها وما تراه لازماً من وجهة نظرها؟
أيهما أكثر فاعلية، أن تناقش ملفات معقدة كملف الدستورين القديم والجديد وملف التجنيس وملف التمييز ومشكلة البطالة ومشكلة الإسكان وملف الفقر وملف قانون الصحافة، وأخيراً ملفي الجمعيات والتجمعات من خلال المشاركة الرسمية في الهامش المتاح؟ أم مناقشتها في ندوات ومؤتمرات وفعاليات شعبية ليس لها الصفة الرسمية الملزمة؟ ولكنها تجتر القضايا اجتراراً للاستهلاك الجماهيري في كثير من الوقائع.
إذا كان بعض المشاركين شاركوا بطريقة «ماكيافيلية»، فإن المقاطعين كان يمكنهم المشاركة على غير تلك الطريقة.
ثمة مسألة لم تجد لها اهتماماً من قبل المقاطعين في أدبياتهم وفعالياتهم بل وحتى في المؤتمر الدستوري الذي عقد بمرئيات ودراسات وقرارات مهمة، هذه المسالة تتمثل في تحليل واستقراء أسباب استبدال دستور 1973 بدستور 2002، وهل الأسباب تتعلق بعدم صلاحية الأول في هذه المرحلة؟ أم أن الثاني جاء بمقاس وتركيبة بكل ما في الساحة من تعقيدات واستحقاقات في هذه المرحلة، جعلها تتوصل إلى فرض الدستور الجديد لضمان التوازن الذي لا يوفره الدستور الأول؟ وهل أن الأسباب التي ربما تهتدي لبعضها أو كلها المعارضة المقاطعة بالتحليل أو بالاستقراء ستقدم جديداً معرفياً على طريق جدلية المقاطعة والمشاركة في التجربة البرلمانية؟ بحيث يقودها لمواصلة الانكفاء أو تبني الأداء
إقرأ أيضا لـ "هادي الموسوي"العدد 812 - الخميس 25 نوفمبر 2004م الموافق 12 شوال 1425هـ