العدد 81 - الإثنين 25 نوفمبر 2002م الموافق 20 رمضان 1423هـ

عندما يكرر البيان أخطاء سابقيه

هوامش على بيان العلماء والمفكرين العرب:

حسن المصطفى comments [at] alwasatnews.com

جاء البيان الأخير عن (التهديدات الأميركية في المنطقة) الموقع من قبل مجموعة من العلماء والدعاة والاكاديميين في العالم العربي، ليصب في ذات السياق الذي صدرت فيه بيانات سابقة، من دون اجتراح افكار جديدة وحلول حقيقية للمأزق الذي تعيشه الحال الاسلامية في العالم، وبالأخص في البلدان المستهدفة اميركيا.

إن المراقب للحال الاسلامية يجدها امام فوضى كم هائل من البيانات التي تصدر من هنا وهناك، في حال تراكمية لم تفض لحد الآن إلى مبادرة حقيقية يمكنها أن تشكل نواة مشروع حقيقي يحمل بعض الحلول ويقدّم كخطة عمل على أرض الواقع.

إن تكاثر البيانات يفقدها اهميتها، ويجعلها حالا دعائية محضة، تجتر حال العجز العربي، وتكرس لفظياته مكرسة حقيقة ما عبر عنه عبداللة القصيمي من كون العرب «ظاهرة صوتية»، وكأنه ومن خلال هذه البيانات سنصل لحلول سحرية تجنبنا التهديدات الاميركية، وتحد من غلواء التطرف في أوساط الحركات الإسلاموية.

البيانات في حقيقتها تهدف لتحقيق امرين في غاية الأهمية: تكوين رأي عام عربي جماهيري تتفق عليه شعوب المنطقة، وبناء مشروع نهضوي بمقدوره أن يترجم عبر آليات عمل فاعلة. لكن جميع البيانات الصادرة حتى الآن لم تستطع تحقيق هذين الهدفين، بقدر ما أثار بعضها نوعا من التصادم بين قوى إسلامية واخرى ليبرالية، وسعت الهوة بينها بدلا من ردمها، وافرزت خطابات متطرفة من الفريقين.

هذه البيانات وفي قراءة لمضمر خطاباتها - في جزء منها وليس بكلها - تؤسس لحال فئوية ليس بمقدورها ان تحتضن تنوعات الطيف الفكري والعرقي والمذهبي والتباين بين ثقافات شعوب المنطقة. بل هي في جزء منها تشكل حالا تفردية، كونها تنطبق من مسلمات ومواقف مسبقة هي في الاساس لا يمكنها ان تخلق خطابا حداثيا متجاوزا لارتهاناتها الكلاسيكية والشعبوية.

في البيان الاخير عن (التهديدات الاميركية في المنطقة) ثمة ثغرات، واخطاء تم تكرارها وصياغتها من جديد، من دون ان يستفاد من تجارب البيانات السابقة. فثمة قلق وخوف لا مبرر له من العلمانية، وكأنها حربة المشروع الاميركي في المنطقة. هذا الخوف يتضح من خلال ما ورد في البيان عندما تحدث قائلا: «ومن ذلك الضغط على بعض الحكومات لتغيير مناهجها الدراسية... ودفعها إلى تبني نموذج علماني يتناقض مع قيم الشعوب ويؤدي إلى الصدام بينها وبين حكومتها».

هذا الموقف من العلمانية، وإقحامها بوصفها اساسا تسعى اميركا لتحقيقه، ينبئ عن خلط في المفاهيم، لأنهم بهذا الاقحام يساوون بين العلمانية والامبريالية، ويقدمون العلمانية بوصفها اداة لنهب ثروات الشعوب والسيطرة عليها. فيما العلمانية في مفهومها بعيدة كل البعد عن ذلك. وفرق بين العلمانية والامبريالية والعلمانوية.

إن الامبريالية والعلمانوية مرفوضتان لكونهما قائمتين على التطرف والاقصاء. فيما العلمانية بمفهومها الفكري، هي خيار معرفي، وسلوك حياتي شخصي، لايمكن تحميله كل هذا الوزر. شيء آخر، ان هذا الطرح السلبي ضد العلمانية من شأنه ان يخلق حالا من اللا توافق بين النخب السياسية والفكرية الفاعلة في الوطن العربي، بدلا من جمعها في مشروع واحد. إن من حق اي صاحب مشروع إسلامي ان تكون له رؤيته وموقفه من العلمانية، لكن ان يستحيل هذا الموقف لنوع من المساواة بينهما وبين النوايا الاميركية امر ينبئ عن خلل كبير. إن الادارة الاميركية لا تهدف إلى علمنة المنطقة، لأن المشروع العلماني لا يعني بسط السيطرة الاميركية، ففرنسا والمانيا دولتان علمانيتان، فهل جعلتهما علمانيتهما رهينتين للمواقف الاميركية؟.

وفيما يتعلق بالمناهج الدراسية، فإن كل هذه المنافحة من أصحاب البيان والتأكيد على عدم تغييرها، إنما هو ذات الشرك الذي تريد اميركا وقوى التطرف أن نقع فيه. إن إعادة النظر في المناهج لا يعني إلغاءها أو إبعاد الدين عن المدارس والجامعات، وإنما ما يراد هو قراءة حقيقية ونقدية تجاه خطاباتنا الدينية والفكرية، تقوم بعملية غربلة وإعادة تقييم وقراءة واعية، تجعل بالامكان صوغ مناهج وخطابات إسلامية تنشئ جيلا يمتلك معرفة دينية حقيقية لا تدينا اجوف خاليا من كل معرفة.

ثمة موضوعة مهمة يرى قارئ البيان غيابها، ألا وهي موضوعة «الديمقراطية» التي استبدلت بـ «الشورى»، مما يعني ان ذات النظرة التشكيلية القائمة تجاه الديمقراطية لا تزال تحكم نخبنا الاسلامية. هذه النظرة التشكيكية سببها السكونية في قراءة مفهوم الديمقراطية، والنظر لها بوصفها ادلوجة تتعارض والادلوجة الاسلامية. فيما الديمقراطية لا تعدو كونها آلية عمل اجرائية تقوم على تطبيق القانون والدستور، وستكون بذلك تابعة لطبيعة المجتمع المنبثقة منه. فيما نجد ان مفهوم «الشورى» الذي طرحه البيان، لم يبلور لحد الآن بشكل جيد في الادبيات الاسلامية، ولم يصغ كمشروع حقيقي ممكن ان يوجد على ارض الواقع. ذات الامر يتعلق بما اسماه البيان «مسلمات وثوابت الامة»، هذه المسلمات والثوابت لاتزال ضبابية ودخل فيها كثير من الدس والعادات والتقاليد والاجتهادات الفردية والجماعية التي أحالتها إلى مقدس لا يمكن الاقتراب منه وإعادة قراءته وتفكيكه، وعليه ولكي يحصل اتفاق لابد من تحديد واضح لهذه الثوابت.

في جزء آخر يرى البيان ان «التهديد الخارجي الاميركي لا يمكن ان ينفذ إلا من خلال هذه الثغرات أو من خلال النخب الدائرة في فلك اميركا والملتزمة لمشروعها ونموذجها»!!، والسؤال هو: من الذي جاء بالقوات الاميركية لافغانستان؟، ومن الذي أثار كراهيتها تجاه المسلمين بكل هذا العداء؟، هل هم النخب الدائرة في فلكها، أم الحركات الاسلاموية المتطرفة وما قامت به من اعمال جرّت المنطقة لكل هذه الويلات؟. إن إلقاء الكرة في ملعب المروجين بالمشروع الاميركي فيه كثير من التبسيط لما يجري على ارض الواقع، وهروب من مجابهة حقيقة الداء المستشري في اوساط الخطاب والحركات الاسلاموية، وابتعاد عن الفعل الحقيقي الواجب القيام به، ألا وهو مجابهة الذات وتفكيكها بوعي في حال من المكاشفة الجادة لا المجاملة وخطابات التبرير والدفاع غير المجدي عما حصل من أخطاء.

ضمن توصيات البيان الموجهة للشعوب يرى الموقعون ضرورة العودة للدين والتوبة واليقين بالله، وجميعها توصيات خيرة وطيبة، لكن المرء يتساءل: هل مأزق المسلمين في ابتعادهم عن الدين؟، وهل مأزقهم في كونهم مذنبين غير تائبين؟، لماذا نجد دول اوروبا وكثيرا من دول العالم متقدمة ومتحررة على رغم كونها دولا «لا دينية»!.

إن المشكل لايكمن في الابتعاد عن الدين بقدر ما هو مأزق غياب مشروع نهضوي عربي حقيقي، يكون الدين احد مكوناته وجزءا منه، من دون إهمال الجوانب الاخرى. اضف إلى ذلك أن العودة للدين من دون تحقق المعرفة الدينية والوعي الفكري سيقود لنصوصية متطرفة تنتج المزيد من الخطابات الماضوية، من دون ان تعي لخطورة ما تقوم به.

ان بيانا كهذا وقع عليه اناس أجلاّء ، كان يؤمل فيه ان يعيد طرح المفاهيم بشكل معمق اكثر، ويخرج عن المواقف المأزومة وردود الافعال. وهذا لا يعني ان نذهب لما ذهب له الكاتب البحريني يوسف العباسي في مقاله المنشور في «إيلاف»، من كون البيان «لايمكن فمهه إلا في إطار العمل على نشر المزيد من الكراهية والتحريض على العنف في المنطقة» لان خطابا متطرفا كخطاب العباسي، سيزيد من حال الانفصال بين النخب الفكرية والسياسية والدينية في الوطن العربي، ونحن بحاجة إلى خطاب موحد يؤسس لحال معرفية واضحة، ويفرق بين حق مشروع في الدفاع والمقاومة كما هي حال الحركات الاسلامية والوطنية في فلسطين، وبين حال الارهاب التي تمارسها المنظمات الاسلاموية المتطرفة. «القاعدة» وشتان بين النموذجين

العدد 81 - الإثنين 25 نوفمبر 2002م الموافق 20 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً