موضوع «الأصول السامية» ليس موضوعاً حديثاً ولا مستطرفاً، بل تناوله كثير من المؤرخين العرب وغير العرب، وأنا هنا لا أريد طرحه كوليمة باردة، أو مادة مستهلكة، بل سأحاول طرحه طرحاً فيه شيء من الحرارة المتعلقة بما تشهده الساحة العربية من سخونة العناق مع «الاخطبوط الصهيوني»، وهو المغزى الذي سأحاول الوصول إليه في هذا البحث.
ولابد للوصول إلى مثل هذه النتيجة من التوجه للعمق التاريخي الذي أتمنى ألا يطلق عليه «وجبة باردة» والربط التاريخي أصبح اليوم ضرورة حتمية لتعبيد طريق المستقبل، وهناك ضرورة أكثر من قراءتنا لتاريخنا قراءة عربية، هي أن نفهم تاريخنا فهماً عربياً.
وتشدني دائما في مثل هذا السياق، مقولة أطلقها وزير الحرب الإسرائيلي العام 1967 موشي دايان، حينما سئل من أحد الصحافيين - «وأظنه بريطانياً» - عن السر وراء انتصار «إسرائيل» على الدول العربية مجتمعة في حرب 1967، أجابه بكل بساطة: «العرب لا يقرأون التاريخ»!
ولقد اعتمد معظم المؤرخين عادة ذات صلة خصوصية، وأهمية كبيرة، حينما يبحثون في تاريخ منطقة أو بلاد بعينها، ألا وهي التمهيد للتاريخ بمعلومات جغرافية، يبينون فيها صفات البيئة التي وقعت فيها الحوادث التاريخية، كدراسة التربة والمناخ والأنهار، والعوامل المفاجئة التي تطرأ على البيئة كالزلازل والبراكين والأعاصير، فتحدث تغييرات جزئية أو كلية في موقع الحدث، تنعكس آثارها على الإنسان الذي يشكل العنصر الحاسم في بناء الحضارة وهو ما يعرف «بالإيكولوجيEcology ».
لذلك سأحاول جاهداً الربط بين ما حل بجغرافية المنطقة التي يفترض أنها مهد الساميين، وبين تاريخها الضارب في العمق، لما لهذه المتغيرات الجغرافية من آثار مهمة في سير تاريخ هذه المنطقة.
ومن الطبيعي أن اعتماد الطرق العلمية الحديثة، قلب كثيراً من المفاهيم التي كانت سائدة، والتي كانت تعتمد الفرضيات والتخمينات، أكثر من اعتمادها الحقائق العلمية.
والقضية السامية هي قضية وجدت فيها من الطرافة ما يمكن أن تكون موضع بحوث متتالية لكثير من المؤرخين والباحثين، خصوصا بعد طرح «السامية» كسلعة وذريعة لاضطهاد كثير ممن يحل عليهم غضب العم سام.
ومكمن الطرافة هو ما يدور بشأن هذه التسمية من لغط متواصل على صفحات الكتب والمجلات والصحف اليومية، وحتى في المعاهد العلمية والجامعات، هذا اللغط الذي تمكن مروجوه من طمس كثير من الحقائق وقلب كثير من المفاهيم، فطرحت السؤال الآتي: (إلى أي مدى يمكننا التوصل إلى الحقيقة أو ما يشبه الحقيقة في القضية السامية؟) وقبل هذا وذاك أضع بين أيديكم بعض العناصر التاريخية التي يمكن الرجوع إلى معطياتها، لتزودنا بالنتائج التي ترتبت على حدوثها خلال عصور ما قبل التاريخ، والتي أثرت بصورة مباشرة في تغيير أنماط كثيرة من حياة الإنسان الذي عاش منطقة الشرق الأوسط والأدنى في تلك الحقب التاريخية. والعناصر هي:
1- اتفق علماء طبقات الأرض (الجيولوجيون) على أن الدورة الجليدية الرابعة بدأت نحو 100,000 سنة قبل الميلاد، وانتهت بنحو 15,000 سنة قبل الميلاد، وما بين الفترتين كانت أوروبا مغطاة بالثلوج، وتصعب الحياة فيها، عدا بعض السهوب المترامية جنوب السهل الأوروبي، في حين كانت الجزيرة العربية تتمتع بجو معتدل رطب، تكثر فيه الأمطار في جميع المواسم، صيفا وشتاء، ما ساعد على نمو الغابات الكثيفة في المنطقة، تحولت فيما بعد عصر الجفاف، نتيجة للضغط إلى طبقات نفطية، كما ساعدت تلك الظروف على قيام حياة حضرية نهرية، لا تقل شأنا عن حضارة وادي النيل وحضارة وادي الرافدين.
2- إن حدوث الانقلاب الجيولوجي في شبه جزيرة العرب أحدث تغييرات طبغرافية، ودبمغرافية، وتسبب في هجرات على شكل موجات متقاربة أحياناً ومتباعدة في أحيان أخرى من حيث التاريخ الزمني، وباتجاهات جغرافية نحو مصادر جديدة للحياة.
بداية أقول ... إن جغرافية الشرق الأدنى الطبيعية قد شكلت عاملا مهماً في تاريخه، وعلى رغم الدراسات الجيولوجية التي حدثت خلال العقود القليلة الماضية، والتي أعطت بعض الضوء للمنقبين الآثاريين، فإن الجهود الكبيرة التي قام بها علماء الآثار هي التي سهلت الطرق لمعرفة كثير من تاريخ مواقع الآثار.
فخلال الفترة الطويلة من العصر الجليدي الأخير الذي دام حوالي مئة ألف عام، كون سكان الجزيرة العربية حضارة قديمة تعتمد على الزراعة والري، ولكن الباحثين لا يعلمون عنها إلا النزر اليسير لأن عصر الكتابة والتدوين لم يكن قد ظهر بعد، وهم بذلك اعتمدوا على ما تركه أهل تلك الحضارة من أدوات زراعية مطمورة في تربتها هنا وهناك.
ولما حل الجفاف، وانحبست الأمطار، واندرست الأنهر في نهاية العصر الجليدي الأخير، أي في نحو 15,000 سنة قبل الميلاد، اضطر الإنسان والحيوان للهجرة إلى أماكن ذات موارد مائية، وكان أن توجه هؤلاء السكان إلى شمالي الجزيرة العربية، ومن هناك توزعوا على أطراف الهلال الخصيب المجاورة للجزيرة في موجات متعاقبة، وفي أزمنة متقاربة أحيانا ومتباعدة أحيانا أخرى، فمنهم من توجه شرقا نحو بلاد وادي الرافدين، وبصورة خاصة نحو الفرات، ومنهم من استقر في فلسطين وفي سورية وفي لبنان، ومنهم من توجه غربا نحو طور سيناء، وأطراف وادي النيل الأوسط، وكان هؤلاء المهاجرون مزودين بخبرات فنية في الري والزراعة، مارسوها في وطنهم الأصلي في العصر الجليدي الأخير.
وأهم ما جاءوا به معهم هو ثقافتهم، ولغتهم العربية الأم، كما نقلوا معهم إلى عالمهم الجديد. الحضارة النهرية التي كونوها في وطنهم الأصلي، وهي خبرتهم في الري والزراعة، واستغلوا الإمكانات التي وفرتها لهم البيئة النهرية الجديدة في تكوين حضارتهم من جديد في مستوطناتهم الجديدة، وتأسيس الإمبراطوريات العظيمة التي فرضت سلطانها على جميع أنحاء الشرقين الأدنى والأوسط.
ونتيجة لهذا التغيير المناخي انتهى العصر الحجري القديم بمقوماته الحضارية، وظهر عصر جديد بمقومات حضارية جديدة، وهو العصر الحجري الحديث، الذي يبدأ بالشرق الأدنى والأوسط حوالي 7000 ق.م. وهو مرحلة حديثة وقريبة من العصر الذي نعيش فيه في الوقت الحاضر، ويتمثل في أمرين رئيسيين هما: الدفؤ (الجفاف) (1).
وهكذا فإن القبائل العربية التي تركت موطنها في وسط الجزيرة العربية على موجات متتالية وفي أزمنة مختلفة في أبعادها، أقامت في مناطقها الجديدة، وبفضل خبرتها في شئون الري والزراعة تمكنت من تأسيس الحضارة العربية الكبرى في مستوطناتها الجديدة في سورية والعراق وفلسطين، أي الكنعانية والعمورية والأكدية والبابلية والآشورية والآرامية الكلدانية، ثم بعد ذلك، وفي زمن يعتبر قصيرا جدا بالمقياس التاريخي، لا يتجاوز الألفي عام، أي بين 2500 ق.م حتى 600 ق.م، أسست هذه القبائل العربية أعظم الإمبراطوريات، والتي عرفها تاريخ البشرية بالإمبراطوريات الساميات الأربع، وهي: الأكدية، والبابلية، والآشورية، والكلدانية الآرامية.
ثم إن هجرتهم إلى وادي النيل عن طريق سيناء لم تكن أقل شأنا من توجههم نحو الفرات، أو بقائهم في أرض الشام، فقد حملوا معهم خبراتهم وثقافتهم التي ساعدت على بناء الحضارة الفرعونية في وادي النيل.
يقول أحمد فخري في كتابه (دراسات في تاريخ الشرق القديم:
«ليس من المعقول أن يتمكن المهاجرون من فرض أنفسهم على شعب ذي حضارة مثل الشعب السومري، إلا إذا كان هؤلاء المهاجرون قد وصلوا إلى مرحلة من التقدم، تجعلهم يعرفون كيف يستفيدون من غيرهم، وتصبح لهم السيطرة على البلاد، وأن تظل لغتهم الأصلية وكثير من مظاهر ثقافتهم ملازمة لهم قرونا طويلة، فإن هذا التماسك، وهذه المحافظة على المميزات، دليل على أن السبأيين الذين وصلوا إلى العراق قبل خمسة آلاف سنة قبل الميلاد من جزيرة العرب، لم يكونوا قوما بدائيين، بل كانوا ذوي ثقافة خاصة، ولهم نظمهم، وحياتهم الخاصة». ثم يضيف فخري قائلا : «وهناك حقيقة مهمة، وهي أنه في الألف الرابعة قبل الميلاد وصلت هجرات من جنوب بلاد العرب إلى مصر، وكان هؤلاء المهاجرون على قدر غير قليل من الثقافة».
وفي كتابه «أثر العرب في الحضارة الأوروبية» يؤيد العقاد ما ذهب إليه فخري فيقول: «وتدل المعلومات التي جمعها الخبراء من مختلف أنحاء جزيرة العرب، على قدم حضارة العرب، وعلى هذا يمكن أن يقال تأييداً لذلك: «ان الجماعات التي نزحت من جنوبي جزيرة العرب إلى وادي النيل، وحوض دجلة والفرات، واستقرت فيها قبل أكثر من أربعين أو خمسين قرناً قبل الميلاد، كانت على شيء غير يسير من مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية ووسائلها، ومن المعقول أنها كانت مزودة بها من منشئها الأول».
كما يؤيد ذلك جواد علي في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، إذ يقول: «وتدل آثار السدود والنواضم التي ترجع إلى ما قبل الإسلام على أن العرب كان لهم علم واسع بتنظيم أمور الارواء، والاستفادة من مياه الأمطار والسيول والأنهار، وتدل كثرة المصطلحات في اللهجات العربية، الشمالية والجنوبية على معرفة القوم بأنواع الآبار والسدود والمسالك والنحايت، وغيرها من الوسائل التي استخدمت للحصول على الماء، وقد عثر رجال شركة النفط العربية السعودية الأميركية حديثا على صهاريج أرضية ببعض أنفاق، وعليها فتحات من مواضع متعددة لاستفاءة الماء منها، عثروا عليها في القطيف والاحساء وفي الفلج، وأواسط نجد، وأماكن أخرى تعد اليوم من المناطق الصحراوية.
كما وجدوا على مقربة منها آثار قرى كانت عامرة ومزارع واسعة ولم يكن العلماء سابقا يعلمون أن أواسط شبه جزيرة العرب والأقسام الشرقية منها، كانت تستخدم هذا النوع من نظم الارواء، بل كان المعروف أن الصهاريج المرتبطة بأنفاق، إنما كانت تستخدم في الشام وفي فلسطين وإيران والأقسام الشمالية من العراق، وقد اتخذ أصحاب النظرية القائلة بأثر الجفاف في شبه جزيرة العرب من وجود هذه القنوات للارواء في مناطق صحراوية، دليلاً على تأييد نظريتهم في جفاف جو شبه جزيرة العرب».
ومما ساعد هؤلاء المهاجرون أن يتوغلوا في البلاد المتاخمة للجزيرة أن حدود العراق الغربية وحدود مصر الشمالية الشرقية، وحدود الأردن، مفتوحة للصحراء، وكان في مقدور القبائل العربية المنتشرة في شبه جزيرة العرب أن تتوغل فيها من دون أن يصادفها حاجز أو عائق جغرافي يصدها، كما هو الحال في الجهة الغربية من شبه الجزيرة حيث سلسلة جبال تهامة والحجاز.
وهناك شبه إجماع لدى العلماء في الوقت الحاضر على أن شبه جزيرة العرب هي مهد الساميين والحضارة السامية، لأن قرائن كثيرة، دينية ولغوية وتاريخية وجغرافية تشير بوضوح إلى أن جزيرة العرب هي مهد الحضارات السامية، ووطن الساميين الأوائل، وقد أيدت جمهرة من العلماء الباحثين هذه النظرية، فكان من أوائلهم «سبرنكر» الذي أكد العام 1861: أن أواسط بلاد العرب، ولاسيما منطقة نجد، هو المكان الذي يجب أن يكون موطن الساميين، وهو الذي جهز الهلال الخصيب بالسكان، وطبعه هذا الطابع السامي، فمن هذا المخزن خرجت طبقات من البشر، بعضها فوق بعض، وسكنت في هذه الأرضين التي اتسمت بالسمة السامية، ولاتزال تحتفظ بسمتها هذه حتى اليوم.
ووافقه في ذلك كثير من المستشرقين والعلماء أمثال سايس (SAYCE) وشرايدر (E.SHRADER)، ودي غوية (DEGOEJE) وغيرهم، وقد كتب المستشرق صموئيل لانج عن هذا الموضوع قائلا: «يبدو أن المسألة واضحة وضوحا كافيا في تحديد الموطن الأول للآريين، فالموطن الأول للساميين لابد أن يكون بلاد العرب، لأننا في مكان آخر غير الجزيرة العربية، لا نعرفهم إلا وافدين منها، غزاة فاتحين، إذ يبدو وكأنهم السكان الأصليون: ولذلك فإن التاريخ القديم لكلديا وآشور، وتقاليدهم الموروثة تشير إلى أن الساميين قد وفدوا من الجنوب، أما عن طريق الخليج العربي، أو عبر صحراء بلاد العرب وسورية، ولذلك فنحن لا نعرف غير الساميين فقط في بلاد العرب منذ أقدم العصور».
وقد رتب بعض من المؤرخين هجرات العرب من وسط وجنوب جزيرة العرب، استنادا إلى ما استنتجوه من الشواهد التاريخية، بحيث كانت تفصل بين كل هجرة والتي تليها فترة تطول أو تقصر، هي الفترة اللازمة لكي يزيد عدد السكان عن موارد البلاد المتعرضة للجفاف والتراجع، بالقدر الذي يدفع جماعات منها إلى الهجرة بحثا عن موارد جديدة خارج المنطقة، ويمكن وضع صورة الهجرات التي توصلوا إلى ترتيبها على النحو الآتي:
الأكديون: وقد استقروا في وادي الرافدين في الألف الرابعة ق.م.
الكنعانيون: «بما فيهم الفينيقيون» والأموريون، وقد استقروا في المنطقة السورية ووادي الرافدين خلال الألفين الثالثة والرابعة ق.م.
الآراميون: وقد استقروا في كل مناطق الهلال الخصيب، والعبرانيون الذين استقروا في المنطقة السورية في النصف الثاني من الألف الثانية ق.م.
الأنباط، وبعض القبائل العربية الجاهلية، وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب بين القرن الثاني ق.م. والقرن السادس الميلادي.
العرب المسلمون: وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب ومصر وبقية شمال إفريقية منذ القرن السابع الميلادي.
ويدعم أصحاب هذا الرأي القائل بموجات كبيرة شبه منتظمة من الهجرات انطلقت من شبه الجزيرة العربية نتيجة الجفاف الذي حل بها، «بعد أن كانت منطقة خضراء مأهولة بالسكان»، بعدد من الملاحظات الصحراوية في شبه الجزيرة من القواقع المتحجرة، أو التي جفت والتي لا تعيش إلا في المياه العذبة، ومن بقايا عظام وأدوات حجرية ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ، ما يشير إلى وجود الماء والحياة في هذه المناطق الصحراوية في الماضي البعيد، ومن بينها عدد من الوديان - الجافة في الوقت الحاضر - مثل وادي الدواسر، ووادي الرمة، ووادي السرحان، التي ربما كانت قبل ذلك ودياناً وأنهاراً جفت بعد تراجع عصر الأمطار، ومن بينهما كذلك أن عدداً من الحيوانات والأشجار التي كانت معروفة في شبه الجزيرة، والتي أوردها الكتاب الكلاسيكيون «اليونان والرومان 500 ق.م - 500 ميلادية تقريبا» أو الكتاب العرب، ولكنها قلت أو اندثرت في الوقت الحاضر، وهو أمر يدعم نظرية استمرار الجفاف، ومن ثم زحف الإقفار على المنطقة حتى في العصور التاريخية.
هذه آراء بعض الذين ذهبوا إلى أن وسط الجزيرة العربية هو موطن الساميين، كآراء وافتراضات منطقية، من حيث عدم اصطدامها بصعوبات جغرافية أو سياسية في ذلك الزمن السحيق. وإلا فأنه بجانب هذه الافتراضات يوجد افتراضان، أوردهما على ما يشوبهما من ضعف:
الافتراض الأول يقول:
إن اليمن هو الموطن الذي انطلقت منه الهجرات السامية، ودليلهم على ذلك هو أن إله القمر الذي عرفه اليمنيون، ظهر كذلك بين بعض الشعوب السامية الإله «تموز» أو «دموزي»، كما اعتمدوا على أن الخط المسند الذي عرفه اليمنيون، هو الذي اشتقت منه سائر الخطوط التي كتبت بها الشعوب السامية الأخرى، ومنها الفينيقي، على أن هذا الرأي يعتوره كثير من الضعف.
والرأي الآخر، أو الافتراض الآخر يقول:
إن منطقة البحرين في شرقي شبه الجزيرة، هي موطن الهجرات السامية، وقد أقام أصحاب هذا الافتراض آراءهم على بعض الدراسات التي قد تثبت أن الفينيقيين «وهم فرع من الكنعانيين - أحد الشعوب السامية»، وقد هاجروا إلى المدن الفينيقية من هذه المنطقة، من تلك الدراسات، النص الذي أورده المؤرخ اليوناني «سترابو STRABO» في القرن الأول قبل الميلاد، وأوائل القرن الميلادي، والذي تحدث فيه عن الخليج الذي تطل عليه منطقة البحرين، فيشير فيه إلى جزيرتين هما «أرادوس» (ARADOS)، وصور (TYLOS)، وأحسبها جزيرتي «المحرق والمنامة» أو «عراد والمنامة».
وبصرف النظر عن كثير من الحجج التي يوردها أصحاب هذين الافتراضين «أي افتراض اليمن والبحرين». فإن جميع المعطيات لا تدل على أن اليمن وحدها أو البحرين وحدها هي الوطن الأصلي للشعوب السامية، لأسباب كثيرة تمكن من إثباتها الباحثون الآثاريون المحدثون.
هذه خلاصة ما وصلت إليه من معلومات حول الساميين، ولا أزعم أنها وحيدة أو متفردة، فهناك الكثير من الدراسات الحديثة، التي تعتمد تقنية المعلومات، التي ربما توافينا مستقبلا بحقائق قد تلغي كلية كثيرا من المعلومات التي اعتمد أصحابها على الرواية التاريخية فحسب.
إلا أنني، أود أن اطرح قضية ذات صلة دقيقة بموضوع السامية، وهي التي تتعلق بأساليب التشويه الصهيوني والإساءة المتعمدة للسامية، وسأورد أربع تسميات وردت في أدوار متباعدة وخلطت خلطا متعمدا واستعملت لمدلول واحد، وهذه التسميات هي : «العبرانيون أو العبريون - ثم الإسرائيليون - فالموسويون (قوم موسى) - ثم اليهود». (7)
وحري بنا الالتفات إلى أن الصهيونيين، في تشويههم وتحريفهم للتوراة، أهملوا بصورة متعمدة تواريخ هذه التسميات، إمعانا في التعمية والتضليل.
1- مصطلح «العبري»
أو «العبراني»
كان يطلق في نحو الألف الثانية قبل الميلاد، وفيما قبل ذلك على طائفة من القبائل العربية، في شمال جزيرة العرب، في بادية الشام، وعلى غيرهم من الأقوام العربية في المنطقة، حتى صارت كلمة «عبري» مرادفة لكلمة «ابن الصحراء»، أو ابن البادية بوجه عام، وبهذا المعنى وردت كلمة «الابري»، و«الهبيري»، و«الخبيرو»، و«العبيرو» في المصادر المسمارية، والفرعونية، ولم يكن للاسرائيليين، والموسويين، واليهود، أي وجود بعد، لذلك فإن نعت إبراهيم الخليل بـ «العبراني»، كما ورد في التوراة، إنما أريد به معنى العبريين «العبيرو»، وهم القبائل البدوية العربية، ومنها القبائل الآرامية العربية التي ينتمي إليها إبراهيم الخليل نفسه، وبهذا المعنى وردت كلمة «عبري»، و«عبيرو»، و«خبيرو»، في الكتابات القديمة التي اكتشفت أخيراً، وهي تعود إلى ما قبل الإسرائيليين والموسويين واليهود بعدة قرون.
لذلك وجب التمييز بين العبري من جهة، وبين الإسرائيلي أو الموسوي أو اليهودي، من جهة أخرى، وخير دليل على ذلك أن مصطلح «عبري» أو «عبراني»، لم يرد في القرآن الكريم مطلقاً، وإنما ورد فيه ذكر «الإسرائيليين»، و«قوم موسى»، و«يهود» - الذين هادوا - ، ويتضح من ذلك أن عصر إبراهيم هذا، هو عصر عربي قائم بذاته، وليست له أية صلة بعصر اليهود، وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه الناحية بقوله: «يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، أفلا تعقلون» (آل: 65)، «ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلماً، وما كان من المشركين» (آل عمران: 67).
أما كلمة عبري للدلالة على اليهود، فقد استعملها الحاخامون بهذا المعنى في وقت متأخر في فلسطين.
2- مصطلح «إسرائيل»
المقصود بكلمة «إسرائيل» هو يعقوب حفيد إبراهيم الخليل، وأبناؤه هم «بنو إسرائيل»، الذين ورد ذكرهم في الأسفار، ودورهم محصور في منطقة «حاران» أو «حران حالياً» حيث وطنهم الأصلي الذي ولدوا ونشأوا فيه، أما فلسطين، فهي أرض غربتهم، وقد وجدوا في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وهو عهد إبراهيم الخليل نفسه، وكانت اللغة في هذه المنطقة في ذلك الزمن لغة واحدة «اللغة الأم» التي كان يتكلم بها أبناء الجزيرة العربية قبل هجرتهم إلى الهلال الخصيب، أي قبل أن تتفرق هذه اللغة إلى اللهجات المختلفة، كالكنعانية، والآرامية، والعمورية، وغيرها، وهكذا كانت لغة العشائر الآرامية التي كان ينتمي إليها إبراهيم الخليل، هي اللغة نفسها التي كان يتكلم بها الكنعانيون والعموريون في فلسطين، وهي قريبة جدا من اللغة الأم.
أما حفيده يعقوب «إسرائيل»، فالأرجح أنه كان يتكلم اللغة نفسها، وهو آرامي مثل إبراهيم بحكم النسب.
كما أنه من الأرجح أن أبناء يعقوب «بني إسرائيل»، في زمن يعقوب كانوا يتكلمون اللغة نفسها، وهذا ما يمكن تسميته بالدور الأول الذي عاش فيه إبراهيم الخليل وإسحق ويعقوب وأبناؤه، وهؤلاء كلهم يدينون بدين إبراهيم الخليل وحفيده يعقوب «إسرائيل».
وقد أظهرت الاكتشافات الأخيرة أن كلمة «إسرائيل» كانت اسما لموضع في فلسطين أيضا ، وهي تسمية كنعانية، وهذا المعنى ورد في الكتابات المصرية التي ترجع إلى ما قبل عصر موسى (ع)، ما يدل على أنها كنعانية أيضا، ومن المهم ذكره في هذا الصدد أن فلسطين كانت أرض غربة بالنسبة لإبراهيم وولده إسحق وحفيده يعقوب «إسرائيل»، وذلك بتأكيد التوراة ذاتها، لأنهم كانوا مغتربين بين الكنعانيين سكان فلسطين الأصليين، وخصوصاً بني إسرائيل الذين ولدوا جميعهم في (حاران) ونشأوا فيها كما تقدم.
وقد انتهى هذا الدور الذي ظهر فيه تسمية «إسرائيل» بعد أن هاجرت أسرة يعقوب إلى مصر، وانضمت إلى يوسف على قول التوراة فاندمجت وذابت في البيئة المصرية كليا
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن كمال الدين"العدد 805 - الخميس 18 نوفمبر 2004م الموافق 05 شوال 1425هـ