شخصيا لا أعرف غير «زول» واحد فحسب يكتب الرواية، هو الطيب صالح صاحب مصطفى سعيد وصاحب هجرة الشمال الجميلة. ومصادفة وقعت على معرفة بزول آخر، اسمه «خالد عويس»، سبب هذه المصادفة صورة زول مميز مطبوع على غلاف رواية حملت اسم «وطن خلف القضبان»، وطبع الناشر على الغلاف الخلفي «رابعة... تروي مأساتها». ولأننا مولعون بالمآسي، كونها المحرك الأكثر إدهاشا على الدوام لتسيير عجلات الابداع، اقتنيت هذه الرواية الصادرة حديثا (دار الساقي/2002)، وسرعان ما فرغت منها في غضون سويعات قليلة.
وعرفت لاحقا فيما عرفت، أن عويس كاتب صحافي سوداني، مقيم بالرياض، وأنه معني بالشأن السياسي، كاتبا ومحللا، أكثر منه ملتصقا بالصحافة الأدبية، وأن روايته المذكورة، كان اسمها «الآلهة المستعارة» بحسب أحد المواقع الالكترونية التي نشرت فصولا منها. أيا يكن الأمر، فقد جرى تغيير عنوان الرواية، ربما بضغط من الناشر، أو قام المؤلف نفسه بالعدول عن التسمية المقترحة قبل النشر ليأتي بعنوان مختلف، أكثر مباشرة من الأول، وأقل بلاغة بطبيعة الحال، بحسب المضامين المقترحة، والخطابات التي تخللتها.
وبالطبع، يصعب التوقع لجهة مستواها أن تكون قريبة من موسم الهجرة - المشار إليها - وهي الأنموذج الذي ننطلق منه، إذا ما صادف وأن التقينا بكتابة تصدر عن زول، كون معرفتنا لا تتجاوز حدود منجزه - هي قاصرة ولا شك - ولا تتجاوز حدود «عرس الزين» و«دومة ود حامد» و«بندر شاه» بجزأيها ضو البيت ومريود، وكلها نتاج صالح نفسه، وبعضها قصص قصيرة.
لكن في «وطن خلف القضبان» ثمة شيء خاص، ثمة عذوبة تقترحها الرواية - وإن كانت تجنح صوب تسجيل دموية فظة وحشد هائل لكل مفردات وحالات العذاب والخواء - ثمة تيار وعي زاحف يستقطب كل العناصر ويشتتها، ثم يعيد استقطابها، يوجد عزف منفرد على وتر واحد، يصور فداحة انفلاش الأمور، وقسوة غياب الهواء النقي. إذ تبدأ الرواية بجمل ناقصة مقطوعة، في تواتر وتسارع لتلتهم عددا كبيرا من الصفحات، انتقالات كثيفة، تراصف صفات موجعة، محاولة تصوير كيفية تبدل الأمور من حال إلى حال، بكائيات حارة على فشل ذريع في التنعم بهواء يضفي على الحياة معنى، وهجائية قاسية لاذعة للوضع العام... وشيئا فشيئا عبر عتبات عدة، تتضح الصورة، تطفر رابعة حسين منصور من بين السطور، واصفة المعركة المريرة التي خاضتها، بسبب تمسكها بسلاحها: الفرشاة والألوان، والعقوبات الهائلة التي تحملها جسدها الضعيف بسبب بطش الظلام، ومن رابعة تنتقل دفة الحديث إلى شخصيات تدور في فلكها، لتعود دفة الحديث إليها.
وعلى رغم امارات الإعجاب التي تؤمنها الرواية، فإنها أكدت تساؤلا مهما يومض ويختفي باستمرار، كلما طالعنا عملا روائيا، وهي مسألة دقيقة تصب في البنية التكوينية التي تمس فعل الإبداع نفسه، إذ غالبا ما يتلاشى السلك الذي يجمع أشتات السرد والعرض. وفي هذا العمل الجميل، كان السرد قويا، في حين كان العرض المتشكل من الحوارات ضعيفا، فيه زعيق، واستعراض معلومات وأسماء، غابت عنها الجماليات المؤثرة، وعليه فشل الراوي في حبك هذه الحوارات، وإدارتها إدارة لها قوة السرد نفسها.
إلا أن هذه الرواية تستحق القراءة، ونختم بالاقتباس التالي على لسان رابعة: «فما عاد شيء يغري بمجازفة التجريب أو متعة الاكتشاف. فكل الكشوف حريق، والذاكرة تحفزنا لسد المنافذ وانتظار المحتوم. ربما لم يبق شيء إلا التأمل والضحك» إلا أنها تعود وتقول في منعطف آخر ثمة فسحة للتنفس «طالما في مسرح وقصيدة ولوحة وكمنجة»
العدد 80 - الأحد 24 نوفمبر 2002م الموافق 19 رمضان 1423هـ