لطالما ارتفع صوت لبنان - طيلة السنوات الخمسين الماضية - شاكيا في المحافل الدولية من لجوء إسرائيل إلى سرقة مياهه من نهري الحاصباني والوزاني.
ويحدث، أنه للمرة الأولى أن يرتفع صوت إسرائيل شاكيا من أن لبنان بدأ بتركيب مضخات لجر مياه النهرين المذكورين باتجاه الأراضي اللبنانية.
وكانت إسرائيل قد بدأت بتوجيه اتهاماتها للبنان منذ مارس/ آذار من العام الماضي، ليأخذ هذا الاتهام اليوم منحى التهديد، وفقا لما جاء على لسان سفير إسرائيل في واشنطن داني ايلون، حين قال في معهد واشنطن: «إن هذا الموضوع تسبب في الماضي في حرب إقليمية»، (يقصد حرب 67).
وفي حين يتهم ايلون حزب الله في عملية تحويل مياه نهر الحاصباني، فإن الورش التابعة لمجلس الجنوب (وهو مؤسسة إنمائية تأسست بعد احتلال إسرائيل لجنوب لبنان)، أنجزت أمس الأول خط الدفع العائد لمشروع ضخ المياه من الوزاني باتجاه القرى المحيطة، كما عملت على وصل قساطل المياه إلى النبع. وستعمل لاحقا على إقامة خزّان لتجميع المياه وتركيب مضخة... في حين عمد المواطنون إلى شق طريق تربط بين ضفتي النهر.
القوة والحق
قبيل العام 1967 وفي إطار تنفيذ قرار جامعة الدول العربية لمشروع استغلال مياه نهر الأردن، كان على لبنان أن يستفيد بـ 45 مليون متر مكعب سنويا من مياه الحاصباني والوزاني، فبدأ ينقل مضخات لتركيبها في بلدة تعرف باسم المجيدية، غير أن مدفعية الجيش الإسرائيلي قصفتها... فصارت استفادة لبنان من مياه النهرين لا تتعدى خمسة ملايين متر مكعب في السنة.
وبتاريخ 9 سبتمبر/ايلول 2002 نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أن «أوساط الاستخبارات الإسرائيلية تتابع باهتمام التقدم في مشروع تحويل مياه الحاصباني، وأن إسرائيل لا تستطيع أن تكبح جماح نفسها لوقت طويل، وأن ذلك يحرم إسرائيل من 30 من المياه التي يجب أن تصب في نهر الأردن».
إن أطماع إسرائيل في المياه اللبنانية والسورية ليست جديدة، بل إنها في صلب نشوء كيانها. فعندما تم إقرار اتفاق سايكس بيكو لتقسيم المنطقة تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني، فإن الحركة الصهيونية ومنذ مؤتمر بال الشهير (1897) ضغطت لجعل حدودها مع لبنان عند نهر الأولي (مدخل مدينة صيدا) بامتداد نحو جبل الشيخ مرورا بنهر الليطاني (عند بحيرة القرعون). لكن فرنسا، على ما تقول المصادر التاريخية، أحبطت هذا المشروع، وإن لم تستطع كانتداب، ولم يستطع لبنان تاليا ككيان مستقل منع إسرائيل من استغلال مياه لبنان... إلى أن أجبرته المقاومة على الانسحاب عبر أكبر عملية تأديب في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي.
تفيد تقارير وزارة الموارد المائية والكهربائية في لبنان «أن إسرائيل كانت تسرق سنويا 184 مليون متر مكعب من مياه نهري الحاصباني والوزاني». وللتذكير فقط، فإن نهر الحاصباني ينبع من بلدة حاصبيا في لبنان، ويجري مسافة 50 كلم في أراضيه (ويصب في مجراه نهر الوزاني)، ثم يجري على امتداد نهر الأردن قبل أن يصب في بحيرة طبريا. وهو مع نهري بانياس واللدان السوريين. هذه الأنهار الثلاثة تصب في بحيرة الحولة قبل تجفيفها، ثم تخرج نهرا واحدا لتصب في بحيرة طبريا، ثم تخرج من هذه البحيرة باسم نهر الأردن الذي يجري جنوبا في غور الأردن ليصب في البحر الميت، وذلك بعد أن يتلقى من نهر اليرموك كميات تصل إلى 460 مليون متر مكعب، علما بأن اليرموك ينبع من سفوح جبل الشيخ الجنوبية.
ويعتبر نهر الحاصباني نهرا غير دولي، ولا تنطبق عليه أحكام القوانين الدولية «لأنه ينبع ويجري في لبنان ولا يعبر الحدود الجنوبية».
وإضافة إلى سرقتها السنوية المتواصلة لمياه النهرين، فإنها كانت تدعي أن 100 مليون متر مكعب من نهر الليطاني تتسرب إلى جوف الأرض لتغذي نهر الحاصباني ونهر اللدان، اللذين يشكلان الرافد الأعلى لمجرى نهر الأردن، وذلك لتجعل من الليطاني نهرا دوليا وليس نهرا لبنانيا... في حين تؤكد جميع الدراسات الجيولوجية في لبنان أن مياه الليطاني لا يغذي نهر الأردن.
وفي الواقع أن إسرائيل تؤمّن حاجاتها من المياه من خارج أراضي الـ 67. وتأتي مصادر المياه هذه من التغذية الجوفية من جنوب لبنان والجولان، ومن أنهارهما التي تجري نحو بحيرة طبريا، خزّان المياه الرئيسي لإسرائيل. كما أن كمية هذه الأنهار تزيد على مليار و500 مليون متر مكعب، تتجمع كلها في سفح جبل الشيخ، أكبر خزان للمياه على الحدود الفاصلة بين لبنان وسورية وإسرائيل.
في مؤتمر من أجل المياه انعقد في فيينا العام 1993، أعلن المندوب الإسرائيلي في المؤتمر أن إسرائيل لن تكون تابعة لأية دولة عربية في موضوع المياه حتى وإن كلفها ذلك السلام.
وأضاف أن حياة إسرائيل مرتبطة بالمياه، وستحارب من أجلها.
فهل يدخل بالتهديد الإسرائيلي للبنان في هذا السياق؟ ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار المعلومات القائلة إن حاجة إسرائيل للمياه العام 2020 ستكون 1550 مليار متر مكعب سنويا.
فمن أين ستحصل عليها، إذا ما كان لبنان بحاجة إلى كامل مياهه، وكذلك سورية، وأيضا الأردن، فضلا عن الضفة الغربية التي تسرق إسرائيل منها 500 مليون متر مكعب سنويا؟!
لقد أظهرت الدراسات الاستراتيجية أن الدول العربية تعاني من نقص حاد من احتياجاتها المائية. ويتزامن هذا النقص مع تحكم 8 دول غير عربية (إفريقية) بأكثر من 85 في المئة من منابع الموارد المائية للوطن العربي. أما إسرائيل فهي مصدر التهديد الأول للدول العربية المحيطة بها منذ تحويلها نهر الأردن.
لقد زادت حصة إسرائيل من المياه بعد اتفاق الصلح مع الأردن من مياه نهر اليرموك من 17 مليون متر مكعب إلى 25 مليون متر، في حين أن أنابيب السلام تنتظر...
وإذا كانت المياه هي التي ستقرر مستقبل المنطقة، فهل أن الحرب على المياه آتية؟ لقد ذكر البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة، «أن شح المياه سيتحول في القريب العاجل إلى مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى شعوب بكاملها».
ويتوقّع صندوق الأمم المتحدة للسكان أن يعيش «ربع سكان العالم سنة 2050 في دول يجتاحها الجفاف المزمن أو الدوري».
نشير هنا إلى أن المواطن الاسترالي يحصل على 26 ألف متر مكعب في السنة، في حين يحصل المواطن الكويتي على 27 مترا مكعبا في السنة.
وفي حين عمدت دول الخليج إلى تحلية مياه البحر، هناك تسابق عالمي على بناء السدود المائية منها: إنشاء ألف سد مائي على شكل مدرجات على نهر نارمادا في الهند، مما يجعلها في المرتبة الأولى في السدود المائية في العالم. (فيها الآن 3600 سد قائمة وترصد لبناء 3200 سد مستقبلا).
وفي الصين يجري بناء سد المضائق الثلاثة وهو الأكبر في العالم ويتسع لأربعة مليارات متر مكعب وينتهي بناؤه سنة 2009، ويعتبر أعجوبة الصين الثانية، (ارتفاع جداره 185 مترا). وفي المغرب 1000 سد، وفي سورية 170 سدا.
وفي غمرة بناء السدود هنا وهناك، بدأ لبنان السير على هذه السكة، والتخطيط للاستفادة من مياهه المهدورة في البحر. فتقرر أن يتم إنشاء 30 سدا في السنوات العشر المقبلة (خطة مجلس الوزراء العام 2000)، ولكي لا يكون لبنان خزان مياه افتراضيا، ولهذا تم توقيع اتفاق لإقامة سد مشترك بين لبنان وسورية على النهر الكبير، كما تم توقيع الاتفاق لإقامة سد مائي على مجرى نهر العاصي بعد محاولات كثيرة باءت بالفشل. وسيضع الرئيس إميل لحود حجر الأساس منتصف الشهر الجاري. ففي الاتفاق للعام 1994 وافق الرئيس حافظ الأسد على أن تكون حصة لبنان 80 مليون متر مكعب من أصل 400 مليون متر مكعب.
ينبع العاصي من لبنان ويجري في أراضيه 16كلم، ثم يجري في الأراضي السورية 470 كلم، و22 كلم في لواء الاسكندرون في تركيا قبل أن يصب في مينائه.
وهناك المشروع الحلم، أي مشروع الليطاني سيبدأ العمل به العام المقبل على أن ينتهي بكامله العام 2007. وقد وصفه أحد الخبراء الجيولوجيين بأنه انقلاب مائي واقتصادي للبنان وجنوبه خصوصا.
في اليوم العالمي للمياه الذي كرسته الأمم المتحدة في 22 مارس من كل عام (تكرس عام 1992) سيجد كل شخص على هذه الكرة الأرضية أنه أمام تحديات تبدأ بتأمين المياه. ثم بتأمين المياه غير الملوثة، ثم بكيفية درء مخاطر الحروب على المياه.
ففي منطقة الشرق الأوسط ـ كما تقول تقارير الأمم المتحدة ـ هناك 124 مليون مواطن من دون مياه شرب آمنة، ناهيك عن الرؤوس التي تحتاج إلى تغسيل
العدد 8 - الجمعة 13 سبتمبر 2002م الموافق 06 رجب 1423هـ