لقد هالتني بعض المحاولات التي برزت على السطح في الآونة الأخيرة من قبل بعض المحسوبين على التيار الإسلامي والمتنفذين في مجتمعاتنا، فبدل أن تتواصل الجهود وتتكاتف في سبيل الدعوة إلى تأصيل حال الانتماء الشرعي في مجتمعاتنا للدين والشريعة وبيان أحكامها على الوجه الصحيح وعرضها وفق رؤى سليمة واضحة وبأساليب أصيلة مقنعة، وأن تتم الاستعانة بوسائل العصر وأدواته الإعلامية العلمية من قبل بعض من يتسمى بعلماء الدين نجد أن العكس هو الاسلوب الذي تبنوه ودأبوا عليه وبشكل يثير الاستغراب والحيرة، نخص بالذكر محاولة بناء مقولات مناهضة للمجمع والمتفق عليه بين قاطبة فقهاء المسلمين وتأسيس نظريات سبق الحكم عليها بالرفض والنأي بها عن دائرة الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالاستهلال وترائيه خصوصاً لشهر رمضان، وإن أحيطت هذه المرة بمزاعم العصرنة والحداثة واسلوب المحاباة واستثارة الرأي العام وخلط الحقائق عليهم وتدنيس ثقافتهم العامة التي تشتكي من الغزو الثقافي الدخيل وبمغالطات واضحة بأنها تبتني على منحى علمي عصري ومنهج استدلالي باستخدام ألفاظ ومصطلحات غريبة، والنتيجة التي تصل اليها في خاتمة المطاف هي التقليعة التي كثر الترويج لها أخيراً والمتمثلة بالدعوة الى التعبد بكلمات وأقوال الفلكيين بشكل مطلق وإلغاء السنن والأحكام ذات العلاقة بالموضوع وتحكيمها على الشريعة وكأن الدين أضحى ناقصاً بحاجة الى تقويم وسد لنقصه، وأنهم من هذا المنطلق وضعوا على عاتقهم معاول الهدم بزعم البناء.
وما أريد إثارته من خلال هذه الأسطر بشكل مختصر على أمل التوسع مستقبلاً إن شاء الله تعالى في عرض علمي مقارن شامل بين أحكام ومقاصد الشريعة وما ينبغي الاستناد اليه وما يتفق معها من حسابات علم الفلك في جميع الأبحاث الخاصة وذات العلاقة بالموضوع هو أن المعايير التي تم اعتمادها أخيراً لتحديد الرؤية الشرعية التي يصح التعويل عليها - كموافقتها للحسابات الفلكية وكون ولادة الهلال قبل الغروب ورؤيته بعد الغروب وأن يكون ارتفاعه عن نقطة الأفق عند غروب الشمس على درجات معينة - بحاجة الى معالجة فقهية أكثر دقة وخصوصاً مع وجود فتاوى فقهية تمثل شريحة ليست قليلة من فقهاء الإسلام وتؤيدها أدلة ونصوص معتمدة. وللتنبيه عليها وتوضيحها بنحو مختصر نقول: إن المتفق عليه أن اليوم في المصطلح الشرعي يبدأ من الغروب وينتهي بالغروب في اليوم التالي، وأن الشهر القمري إما أن يكون تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، وزمان الترائي وتحري هلال شهر شوال متعين في مساء يوم التاسع والعشرين ليلة الثلاثين من شهر رمضان. وما نحاول عرضه والالفات إليه زائداً على ذلك هو أنه لو رؤي الهلال أثناء نهار يوم الثلاثين وقبل الغروب سواء تحققت هذه الرؤية قبل الزوال أو بعده، ومن دون فرق أن يولد الهلال بعد الغروب في ليلة الثلاثين لا قبله، كما وقع الاتفاق عليه أخيراً. وإلى ذلك ذهب جمع من أعلام فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم الى الأخذ بمثل هذه الرؤية باعتبار أنها تحققت ضمن الفترة الزمنية ليوم الثلاثين من دون فرق بين بدايته التي تتحقق من غروب اليوم السابق وتستمر حتى غروب الشمس في اليوم نفسه.
قال السيد المرتضى علم الهدى في كتاب «الناصريات» (ص291): إذا رئي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية. هذا صحيح وهو مذهبنا، واليه ذهب أبوحنيفة، ولم يفرق بين رؤيته قبل الزوال وبعده، وهو قول محمد ومالك والشافعي.
وقال أبويوسف: «إن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وبعد الزوال لليلة المستقبلة».
وقال أحمد: في آخر الشهر مثل قوله، وفي أوله مثل قول من خالفنا احتياطا للصوم. دليلنا: الاجماع المتقدم ذكره. وأيضاً ما روي عن أمير المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس أنهم قالوا: «إذا رئي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية» ولا مخالف لهم.
وقال شيخ الطائفة الطوسي في كتاب «الخلاف» (ج 2، ص 171): مسألة 10: إذا رأى الهلال قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة دون الماضية. وبه قال جميع الفقهاء (الأم 2: 95، والموطأ1: 287، وشرح فتح القدير 2: 52، والمغني لابن قدامة 3: 108، والمجموع 6: 272 - 273، وفتح العزيز 6: 286، وتبيين الحقائق 1: 321، وبداية المجتهد 1: 275) .
وذهب قوم من أصحابنا إلى أنه إن رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن رؤي بعده فهو لليلة المستقبلة. وبه قال أبو يوسف. دليلنا: الأخبار التي رويناها في الكتاب المتقدم ذكره، وبينا القول في الرواية الشاذة. وأيضا قول النبي (ص): «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا»، وهذا رآه بالنهار، فينبغي أن يكون صومه وفطره من الغد، لأنه إن صام ذلك عن علي (ع) وعمر، وابن عمر، وأنس وقالوا كلهم: لليلة القابلة، ولا مخالف لهم يدل على أنه إجماع الصحابة.
العلامة الحلي في «تذكرة الفقهاء» (ج 6 ، ص 127):
وقال الثوري: إن رؤي قبل الزوال، فهو لليلة الماضية، وإن رؤي بعده، فهو للمستقبلة. وبه قال أبويوسف. وقال أحمد: إن كان في أول شهر رمضان، وكان قبل الزوال، فهو للماضية، وإن كان في هلال شوال، فروايتان: إحداهما: أنها كذلك، والثانية: للمستقبلة، لقوله عليه السلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقد رأوه، فيجب الصوم والفطر. ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية. والمراد في الخبر: إذا رأوه عشية، بدليل ما لو رؤي بعد الزوال، يلزمه قضاء ذلك اليوم، لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله، كما لو رؤي بعد العصر.
وقال الفقيه ابن فهد الحلي في كتاب المهذب البارع (ج 2 ص63): السادسة: الرؤية قبل الزوال: هل يعتبر بها ويصير اليوم من الشهر الجديد؟ بمعنى أن يكون الهلال لليلة الماضية، أو لا عبرة بها؟ ويحكم به لليلة المستقبلة.
قيل فيه ثلاثة أقوال: إنه لليلة الماضية فيحكم بهذا اليوم من الجديد، وهو اختيار السيد، وبه روايتان: إحداهما رواية حماد بن عثمان، والأخرى رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله (ع) والأولى حسنة، والثانية موثقة. قال: إذا رؤي الهلال قبل الزوال فذلك اليوم من شوال، وإذا رؤي بعد الزوال فهو من شهر رمضان. قال المصنف في المعتبر: فقوة هاتين الروايتين أوجب التردد بين العمل بهما وما دل عليه رواية العدلين، إشارة إلى رواية منصور بن حازم المتقدمة، وهي مناسبة لأصول المذهب.
وروى محمد بن عيسى قال: كتبت إليه عليه السلام أسأله، جعلت فداك ربما غم علينا شهر رمضان، فنرى من الغد الهلال قبل الزوال، وربما رأيناه بعد الزوال، فترى أن نفطر قبل الزوال إذا رأيناه أم لا؟ وكيف تأمر في ذلك؟ فكتب (ع): تتم إلى الليل، فإنه إن كان تاماً رؤي قبل الزوال، وفي معناها رواية جراح المدائني عن الصادق (ع). (ب) إنه لليلة المستقبلة، وهو قول أبي علي، واختاره الشيخ في «الخلاف» وعليه العلامة في أكثر كتبه.
وقد وافقهم على ذلك جمع كثير من الأعلام يتعذر علينا استقصاؤهم في هذا المقال ونقتصر على الإشارة الى واحد من أبرز أعلام فقهاء البحرين المعتمدين ألا وهو العلامة البحراني الشيخ حسين آل عصفور (قدس سره) في كتاب «السداد» (ج 1 ص 438)، إذ يقول: رؤيته يوم الثلاثين قبل الزوال معتمدة لأنه لليلة الماضية.
فالذي أدعو اليه بعد هذا التنبيه وهذه الإثارة الفقهية هو عقد مؤتمر أو منتدى علمي فقهي لبلورة أمثال هذه الأقوال الفقهية التي صرح بها عدد ليس قليلاً من أبرز الفقهاء المعتمدين لدى الكثير من أتباع المذاهب الإسلامية للخروج بصيغة توافقية أكثر استناداً إلى أحكام الشريعة وأكثر اطمئناناً للمكلفين لبراءة ذممهم مما يجب عليهم من صوم أو فطر في مثل شهر رمضان.
كما ينبغي دعوة المختصين من الفلكيين إلى تفسير مثل هذه الظواهر التي يشاهد فيها الهلال في يوم الثلاثين في وضح النهار مع استضاءة السماء بنور الشمس
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محسن آل عصفور"العدد 799 - الجمعة 12 نوفمبر 2004م الموافق 29 رمضان 1425هـ