هذه المقولة التي جعلناها عنوانا لهذا المقال ينطق بها لسان التاريخ، ويجعل منها قاعدة مطردة سار عليها صراع الشعوب في الماضي البعيد والقريب مع القوى العظمى التي اعتمدت على القوة العسكرية وحدها لتطويع الشعوب المستضعفة، وسلب إرادتها وقهرها، ثم لم يطل عمر الأقوياء إلا لحظة تاريخية، ما لبثوا بعدها أن سقطت نظمهم ودخلت في خبر كان. مهما امتد سلطان الطغيان وعتا وقهر ودمّر وخرّب وقتل وأباد، فإن عمره مهما طال قصير، لأن التاريخ الذي يرصد عبر القرون ظاهرة الطغيان أطول منه عمراً، حتى ولو ساد حكم الطغيان وحكَم ألف عام، إذ بالنسبة لعمر التاريخ لا تعدو عدة عشرة قرون أن تكون لحظة من لحظاته المتجددة التي تتقلَّب فيها الأحوال وتتغير الأوضاع، ودائماً تـنتهي بهزيمة القوة العسكرية وانتصار الحق الذي يعلو ولا يُعْـلى عليه.
مقولتي «ليس بالقوة العسكرية وحدها تُحكَم الشعوب والأمم وتـُساد» تلتقي مع مقولة قديمة حكيمة تقول: «إن للحق صولة، وللباطل جولة. فإذا جاء الحق بصولته، ذهب الباطل بجولته».
لا تكفي القوة العسكرية لبسط دولة عظمى نفوذها كُرها على العالم مهما عتت قوتها وطغى جبروتها. وما أكثر الإمبراطوريات العسكرية التي زحفت جيوشها على أراضي الشعوب المستضعفة والنظم الدولية فاقدة المناعة التي انتصرت في لحظة تاريخية على هذه الشعوب والنظم ثم انهارت في لحظة تاريخية أخرى». و«تلك الأيام نداوِلـها بين الناس» (آل عمران: 140).
لابد من أن تكون للدول الطامعة في الاستيلاء على العالم جزءا أو كلا رسالة ذات أهداف أخلاقية يعترف العالم بها ويؤمن بها، وأن تتوافر لها نية صالحة لتعميم خير الرسالة التي تحملها، وعزم أكيد على إفادة الشعوب منها بإخلاص وصدق، وألا يكون الهدف السائد هو التوسع في أراضي الغير وتحقيق مصالح استراتيجية تمس بمصالح الغير الاستراتيجية. وهو الهدف الذي كان وراء توسع الإمبراطوريات الاستعمارية التي اكتملت نهايتـُـها في أواخر القرن الأخير بسقوط الإمبراطورية السوفياتية المفاجئ. وكما لا تكفي القوة العسكرية لبسط سلطان الطغيان على الشعوب والأمم، لا يكفي التظاهر بأن للدولة الغازية المحتلة رسالة الإصلاح والتغيير لصالح الشعوب، لتسويغ اغتصاب السيادة الشعبية وابتلاعها. فهذه المراوغة لا تـنطلي حيلتها على الشعوب التي يراد غزوها. ولذلك ترفض الشعوب أن تمنح سيادتَها للطاغي مقابل ادعائه القيام بإصلاح كاذب ومحتال لأوضاعها. وهو ما يُـفـقِـد غزوَها المشروعية، ويجعل من الغزو بالقوة العسكرية عملا غير شرعي، ما يصبح معه التدخل في شئون الشعوب المستضعفة بوسائل القوة فاقداً للشرعية والمشروعية في آن واحد . إن حرب «شارون» على فلسطين، وحرب «بوش» على العراق المعلنة، وحربه المتسترة على فلسطين - التي يقتعد فيها موقع الرديف - لا شرعيةَ ولا مشروعيةَ لهما. ونفى «كوفي عنان» في تصريح شجاع صدر عنه منذ أسابيع الشرعية عن حرب العراق، وقال عنها إنها غير قانونية.
وتكفلت المقاومة المُستـشْرية في العراق بنزع المشروعية عنها. ونعيش - منذ ثلاث سنوات - في حرب «شارون» المدعومة من «بوش» التي لا شرعية لها سعياً حـثـيثا منهما لإضفاء الشرعية عليها ومغالطة العالم أنها حرب على الإرهاب، و«دفاع - من «إسرائيل» - عن نفسها» والمقاومة الفلسطينية أثبتت بصمودها طويل النفس أن حرب شارون تفتقد المشروعية إلى جانب الشرعية، لأن المجتمع الدولي يسمي المناطق الفلسطينية مناطق الاحتلال، ولا شرعية للاحتلال. الامبراطوريات الاستعمارية كانت تـتـذرّع - لتبرير غزوها واحتلالها - بأن لها رسالة إصلاح تريد تبليغها إلى الشعوب المستعمَـرة، وأنها تستهدف انتشالها من هوة التخلف والأخذ بيدها للسير بها على مسار التقدم. وكانت تقول عن هذه الشعوب إنها غير متمدنة، وهي تريد تمدينها وتطويرها. ولكنها لم تقم فوق الأراضي المحتلة بأي إصلاح، واضطرت في النهاية - تحت ضغط مقاومة الشعوب - إلى الانسحاب من الأراضي المغـزُوّة بعد أن تركتها أكثر تخلفاً وأسوأ مصيرا.
لم تقم الامبراطورية الإسلامية التي سادت جزءاً شاسعاً من العالم بوسيلة القوة العسكرية التي لم تكن تتوافر عليها، ولم يكن لها جيش نظامي محترف يباشر الغزو، بل كان هدفها نشر دين الإسلام دين السلام والمحبة والإخاء والتعايش مع الغير. ولذلك أُطلق على الزيارات التي كان يقوم بها المجاهدون لأراضي الامبراطوريات الكبرى اسم الفتح الإسلامي، أي فتح القلوب عن طريق التبشير بالدعوة الإسلامية لتقـبُّـلها طوعاً واختياراً، فلا إكراه في الدين. وكانت سمعة الدعوة الإسلامية المسالمة تسبق إلى الأراضي التي يمتد إليها الفتح الإسلامي فتدخل شعوبها في الدين الإسلامي أفواجاً أفواجاً من دون حرب أو قتال.
وحلمت النازية بإقامة امبراطورية ألمانية عظمى بالقوة العسكرية وحدها، فلم تطل حربها على أوروبا لأنها كانت عنصرية ولا أخلاقية بسعيها إلى فرض سيادة العنصر الآري وتـفوقه. وانهارت بين عشية وضحاها كما انهارت نظيراتها السابقة. لقد كانت فلسفة «الفوهرير» سباحة ضد التيار العالمي المنفتح على التعايش. وكانت رِدّة وعودة إلى ماضي الجاهلية العالمية: جاهلية التفاخر بالأعراق والأنساب والخصوصيات والتعصب لها.
وجاءت في وقت بزوغ فجر النزعة العالمية، ولذلك رفضها العالم. وكان هذا الرفض وراء الهزيمة الشنعاء التي لحقت بالنازية والفاشية. حرب شارون وبوش على فلسطين والعراق اعتمدت وسيلة القوة العسكرية وحدها.
وحدد بوش لحرب فلسطين مئة يوم، وها هي تجتاز السنة الثالثة وخفق بوش في فرض احتلاله بالحديد والنار. كما أن حرب العراق التي أعلن بوش نهايتها منذ أكثر من سنة تمضي من تصعيد إلى آخر أشد عنفاً وشراسة، إذ إن عدد القتلى المدنيين وحدهم مئة ألف. وهو ما يكذّب نزعة فعالية كسب الحرب بالقوة العسكرية وحدها. لقد كانت الحرب على العراق خطأ ارتكبه الرجل الخطأ في المكان الخطأ، والزمن الخطأ، كما قال السيناتور «جون كيري». ولولا أنه تبين من حرب العراق أن القوة العسكرية لا تكفي وحدها لحكم الشعوب وسيادتها، لكنا قد عشنا مسلسل حروب على سورية وإيران، ودول عربية إسلامية أخرى خطط البيت الأبيض لغزوها عندما صنع خبراؤه مـخطط «تغيير خريطة الشرق الأوسط الكبير وإعادة تشكيلها». يدخل في إطار مقولة «القوة العسكرية وحدها لا تكفي لحكم الشعوب والأمم» كل حكم وطني يقوم على القوة والقهر والطغيان يمارسه الحكم المطلق على شعبه سواء أكان بوليسيا، أو مخابراتياً، أو مشخَّصاً في فرد، أو سلطة جماعة حاكمة بأمرها، أو في حزب وحيد مسيطر. فهذه النظم تولد ميتة أو محكوما عليها بالموت، وخصوصاً في عهد الديمقراطية الحديثة السائدة اليوم. وتبدو هذه النظم الهشة وهي تـتـكسّر على صخرة الإصلاح العاتية التي تناطحها مثلما يناطح الوعل الصخرة التي تـتـكسر قرونه على صلابتها كما قال عن ذلك الشاعر العربي القديم. هذه النظم معروفة نهايتها سلفاً. وها نحن نشاهد صروحها تتساقط كما يسقط قصر من ورق.
والآن وقد ظفر الرئيس «بوش» بما كان يتمنى، وفاز بولاية جديدة ظلت هاجسه المؤرِّق طيلة أربع سنوات، آمل أن يدرك أن نتائج الانتخابات أبرزت أن برنامج خصمه أيدته أصوات متقاربة مع الأصوات التي ظفر بها، ما يعني أن الشعب الأميركي ينتظر منه تغيير سياسته، وتصحيح أخطائه التي ارتكبها، وفي طليعتها مراهنته على بسط نفوذ الولايات المتحدة على العالم بالقوة العسكرية.
آمل أن تتغلب الحكمة على سياسة البيت الأبيض طوال الأربع سنوات المقبلة، وأن تكون الولاية الجديدة فاتحة عهد جديد لفتح الحوار للوصول إلى التفاهم والتعاون مع المجتمع الدولي، وذلك حتى لا يتردى العالم في حرب عالمية بين المعسكرات والحضارات والثقافات والأديان. وسيكون المستفيد من ذلك في الطليعة الولايات المتحدة نفسها، إذ كل شيء يرشحها لتقود العالم مادام لا يوجد قطب أو أقطاب قادرون على منافستها، ولن تسوده بكل تأكيد بالتهديد والوعيد، والنار والحديد
العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ