المتتبع للتقرير الذي سبق ونشر في الصحافة المحلية في أواخر الشهر قبل الماضي، من قبل المجلس الأعلى للمرأة والمستند إلى نتائج الدراسة التعاقدية المعدة له من قبل مركز البحرين للدراسات والبحوث بشأن تقنين أحكام الأسرة، أقول ان المتابع لن يتعجب لما ورد فيه من حقائق تفيد بأن ما نسبته (41,2 في المئة) من البحرينيين ليست لديهم معرفة بالأحكام والمبادئ الأسرية المطبقة في المحكمة، كما لن يدهش من استخلاصات استطلاع الرأي من أن نسبة الإناث هي الأعلى مقارنة بالذكور (56,08 في المئة مقابل 43,92 في المئة) في تأييد إقرار قانون للأحوال الشخصية. لماذا لا نتعجب ولا نندهش؟ لأسباب بديهية عبرت عنها الحالات الآتية:
حالة أولى: بعد الانتهاء من دراستها الثانوية قبل 15 عاماً، تزوجته على سنة الله ورسوله، وأنجبت له أربعة أبناء هم الآن في مراحلهم الدراسية الإعدادية والثانوية. منذ فترة الخطوبة وإلى الآن لم تتوقف مشكلاتها ومعاناتها اليومية معه، حتى استقرت على رغبة الانفصال عنه. أهلها بدورهم ساهموا في مأساتها بنصحهم المتكرر بعد كل شجار معه بالعودة إلى بيت زوجها على رغم طرده لها، وعلى رغم ما تتلقاه من عنف وسوء معاملة بدءًا من الضرب وانتهاء بالتجريح، فضلاً عن حرمانها من المصروف بسبب بخله وتقصيره عليها وعلى أبنائهما، غاب الانسجام العاطفي بينهما، ولم تعد للمودة مكان. أوصلتها المشكلات إلى مخافر الشرطة، وبعدها المحاكم، فمنذ أيام الزواج الأولى، وأسباب الشكوى هي ذاتها، لا يتحمل واجباته تجاه زوجته وأبنائه لا مادياً ولا اجتماعياً، قراراته فردية ومتسلطة، يعتدي عليها بالضرب ويطردها من البيت باستمرار فتلجأ إلى بيت والدتها المطلقة التي تضيق بوجودها وتمارس عليها هي الأخرى إذلالاً يزيد من معاناتها النفسية. المحاكم لا تسهل أمر طلاقها، وتطالبها بالشهود حينما تشتكي من عنف الزوج وسوء معاملته، كما يصرون هناك على إبراز التقارير التي تثبت سوء المعاملة.
هي لم تعي جيداً ما لها وعليها من حقوق، ما ساهم في تعطيل الحكم بمطالبتها بالطلاق، علاوة على خوفها الشديد من ضياع حضانة الأبناء وخصوصاً ان الأب غير مؤهل لذلك. عندما تتقدم كل مرة بشكواها، غالباً ما ينصحها قضاة المحكمة الشرعية بالتريّث والصبر، وإقناعها بعدم حاجتها للطلاق، وعليها التصالح معه والعودة إلى بيت الزوجية. بيد أن المأساة تكر سبحتها ثانية ويبدأ الذل والحرمان والخروج من البيت، فيؤثر سلباً على صحتها النفسية والجسدية، علاوةً على التحصيل الدراسي للأبناء وعدم استقرارهم أو شعورهم بالأمان. يمضي العمر وقضيتها لاتزال عالقة بانتظار حكم قضاة الشرع.
حالة ثانية: شابة في مقتبل العمر، تعرضت لحادث اعتداء جنسي من أحدهم، وأجبرت على زواج لم يكن لها خيار فيه، بسبب الحمل غير الشرعي. عرجت بقضيتها على المحاكم حينما حاول النكران، لكنه سرعان ما ألزم بالزواج بها. لم تنته مشكلتها حتى بدأ بعدها بممارسة العنف والإذلال عليها، لم يقتصر الأمر على الضرب والحبس القسري في البيت، بل تعداه إلى حرمانها من جميع حقوقها الزوجية والشرعية. وبسبب استمرار هذه الإساءة والمعاملة اللاإنسانية، قررت الفتاة العودة إلى بيت أهلها الذين تضامنوا معها في رفع دعوى قضائية عليه في المحكمة تلزمه بالطلاق ودفع مستحقاتها، لكن القاضي الشرعي يتفق مع الزوج على التطليق شريطة أن تتخلى بدورها عن إلزامه بدفع ما عليه من مؤخر الصداق المتوجب في عقد الزواج، وعليه لا نفقة ولاهم يحزنون. إنها معاناة حقيقية ومستقبل مجهول، وحاجة ملحة للتأهيل، من يتحمل مسئولية هذا الوضع؟
حالة ثالثة: زوجة ابتليت بزوج مدمن على الكحول، حاولت كعادة الكثيرات من النساء الصبر على تصرفاته غير السوية والتأقلم معه، والاستمرار في عملها الوظيفي وتربية طفلها الوحيد منه، وتحمل جميع مسئولياته ومصاريفه المادية. 15 عاماً مضت على هذا الحال، حتى فقدت الأمل في تحسن وضعه كما منت النفس مع التقدم في العمر. من جانبه كان يعنّفها بالضرب والشتم والتهديد بالذبح بالسكين، والطرد من البيت أو حبسها فيه قسراً وعزلها عن العالم الخارجي حتى انها لا تجرؤ على الذهاب إلى السوق. وهي تعيش مع ابنها في رعب دائم منه.
كل هذه المعاناة أوصلتها كما غيرها إلى مراكز الشرطة، إذ لا فائدة ترتجى منها، وأهلها ينصحونها بالصبر والتحمل خوفاً من العار والفضيحة بسبب الطلاق، هذا فضلاً عن علاقاته الجنسية التي يمارسها خارج العلاقة الزوجية، ما ضاعف من خوفها من انتقال عدوى الأمراض الجنسية إليها، لذلك قررت الامتناع عن الجماع واستمر في ضربها وشتمها وطردها من البيت. طلبت الطلاق من المحاكم الشرعية، علق البت في قضيتها لسنوات، وبعد إصرارها الشديد تم الحكم لها بالطلاق. تقول: «لو كان لي قانون أسرة يحميني من هذه المعاناة لتجنبت المرور بكل المآسي والمشكلات التي كادت أن تقضي علي».
حالة رابعة: تحابا تماماً كما في الأفلام، حملت منه بطفل قبل الزواج، عندما قرر الزواج منها، أقنعه أهله بالعدول عن تحمل مسئولية ما حدث. أسرت لي اختصاصية معالجة في الإرشاد الأسري قائلة: «في حالات مشابهة وصلت إلى المحاكم، غالباً ما ينكر الشاب نسب الجنين إليه والاعتراف به حتى لو أثبتت التحاليل ذلك، ودائماً ما يرفض الشاب الزواج من فتاته، تحت تبرير انها هي من يتحمل المسئولية لأنها هي من سعت إليه. أما أهل الشاب فغالبيتهم يضغطون على ابنهم كي يتنكر لأبوته وتحمل مسئوليته، ويكون مصير الطفل اما دار الأيتام أو الشارع، إذ لا قانون يحمي الأم أو طفلها». وفي النهاية ضحيتان تصرخان في وجه المجتمع، ما العمل؟
هذه الحالات غيض من فيض، ومثلها المئات والمئات، المخفي منها والمسكوت عنه أو الوارد في سجلات المحاكم ومخافر الشرطة، وهي تمثل نموذجاً فاقعاً يفصح من دون شك، عن أن المرأة في مجتمعنا هي المتضرر الأول والأخير من القضايا العالقة بتفاصيلها في أروقة المحاكم الشرعية وأدراجها. فهذه المعاناة في نهاية المطاف تفرز وضعاً أسرياً غير مستقر وأجواء ملوثة بجميع السموم والأمراض الاجتماعية والنفسية. كما تسبب إرباكاً وهدماً لمستقبل وحياة المئات من النساء فضلاً عن شل حركتهن ومحاصرتهن في وضع الانتظار لأمر من بعض قضاة الشرع.
وعلى رغم رغبة القيادة السياسية وتأكيداتها ودعمها المتواصل لإصدار قانونٍ ينظم أحكام الأسرة، فإن الأمر لا يبدو كذلك عند الجانب الشعبي على رغم ما يستبد بنساء البحرين من قلق وترقب، وأسباب ذلك كثيرة نشير إلى بعضها:
1- دعونا نعود ثانية إلى نتائج الدراسة السابقة، إن ما نسبته (53,6 في المئة) من أفراد العينة المبحوثة، يقترحون أن يتولى أمر هذا القانون كل من أهل الاختصاص والفقهاء الشرعيين وعلماء الدين والقانونيين وأعضاء مؤسسات المجتمع المدني، و(45,9 في المئة) يخول الفقهاء الشرعيين وعلماء الدين فقط ذلك. ماذا يعني هذا؟ يعني أن غالبية المجتمع تقر بوجود إشكالية كبيرة بانعدام تقنين أحكام الأسرة، لكنهم في الوقت نفسه لا يرتضون غير الاعتماد على الفقه والشرع الإسلامي مصدراً وحيداً لهذا القانون. هم يستشعرون الحاجة إلى التقنين للحد من المفاسد والتفكك الأسري، وبالتالي على رجال الدين حل هذه المعضلة. ندعوكم أيضاً إلى مراجعة كل كلمة وتصريح من قبلهم ومقاربتها بمئات الحالات العالق مصيرها، ومطابقة النية والقول مع الفعل في المحافظة على الأسرة البحرينية من التفكك، والحد من ظلم النساء.
إذاً هذا هو مزاج الشارع البحريني عموماً، في حال اتفقنا على الأخذ بمؤشر العينة. وهذا الواقع يثير سؤالاً مهماً ودقيقاً ومحرجاً للمهتمين والمتابعين. السؤال: ما جدوى المطالبة بقانون أحوال شخصية مدني وموحد لأبناء الطائفتين؟ وخصوصاً بعد الاطلاع ومراجعة ما جاء من تصريح للشيخ عيسى قاسم في إحدى خطب الجمعة، إذ «طرح البديل عن التقنين الوضعي الذي لا تسجَّـل عليه إشكالات التقنين الوضعي، باعتماد فتوى المرجعية العامة في النجف الأشراف مثلاً في أحكام الأسرة، ووضعها في لغة قانونية مع الحفاظ على مضامينها تماماً، وذلك بعيداً عن المجلس الوطني، وأية مؤسسة تقوم مقامه في وظيفة التشريع، وتعتبر هذه الأحكام بعد أن تصب في لغة قانونية مدونة خاصة بالمحاكم الشرعية الجعفرية، على أن تكون خاضعة لتعديل المرجعية المعنية أو أية مرجعية عامة مستكملة للشروط عندما تأتي بعدها... «الوسط» 24 اكتوبر/ تشرين الأول الماضي. فضلاً عن العريضة الرافضة للتقنين والتي وقعها ما يزيد على (60,000 شخص). وبناء عليه، هل يراودنا الشك في انعدام الرغبة في التقنين؟
بدوره نائب البرلمان عادل المعاودة أكد: «أن أمور الشريعة يجب أن يرجع فيها إلى أهل العلم الثقاة، وألا نجعل نصوص الشريعة محل أخذ وعطاء لمن ليس هو أهلاً لذلك، فالشريعة يجب ألا يتكلم فيها إلا أهلها». وأضاف «إن ما يسمى بـ (الأحوال الشخصية) بشهادة قضاتنا الكرام، فإن الأحكام عندهم مستقرة منذ زمن طويل، لذلك فإن مسألة التقنين يجب أن تكون على يد أهل الشريعة ابتداءً وانتهاء... إن كلام قاسم شرعي ورصين...»، «الوسط» 24 اكتوبر الماضي. هل نشك بعد ذلك في أن الموافقة على (الكلام الشرعي والرصين)، قصد بها الرغبة الدفينة والمعلنة في أن يكون لنا قانون خاص بطائفتنا بعيداً عن التقنين؟ أنا شخصياً لا أشك في ذلك أبداً. فهذه بمجملها تفسر على انها انقلاب على جميع المحاولات الحثيثة المبذولة لتقنين أحكام الأسرة، وهي تلتف بنا ثانية إلى نقطة الصفر، إذ القضايا عالقة في المحاكم، يحسم فيها قضاة الشرع من دون قانون، فقط بما يمليه عليهم ضميرهم أو أمزجتهم وأهواؤهم. إذن فلتترك الأمور على ما هي عليه الآن، لا قانون مكتوب، فقط تعالج الحالات استناداً إلى الالتزامات الدينية والمذهبية وبحسب المرجعيات التي يرتئيها القضاة الشرعيون أو التقليد المتبع من أصحاب الشأن، وكأننا لا رحنا ولا جئنا!
2- الأمر الآخر هو ذلك الذي يناقش بين أعضاء وعضوات الجمعيات السياسية بتعددها وتنوع توجهاتها. وهو يتساءل: هل على الجمعيات تحديد موقف مبدئي من إقرار القانون أم لا، بغض النظر عن الموقف السياسي والتحالفات؟ ونسألهم بدورنا: هل ابتعد مشروع قانون الأحوال الشخصية يوما ما عن أجندة التحالفات السياسية سواءً القائمة منها على المستوى الأهلي أو الرسمي؟ وعليه هل سنسمع عن صفقات ما بين أقطاب التيارات الدينية مع الحكم باتجاه إصدار قانونين للأحوال الشخصية أحدهما سني والآخر شيعي؟ هذا في أحسن وأجمل الأحوال. ولكن... هل اتفقوا على إقرار هذا القانون عبر المجلس الوطني القائم أم المقبل؟ هل الأقطاب داخل كل تيار من هذه التيارات متفقون على التقنين؟ بالنسبة الي أشك في ذلك، ألم أقل لكم ان القانون غالباً ما يقع فوق أو أسفل الأجندة السياسية!
3- في المحصلة نسأل بإخلاص كل من يدعي تمثيل المرأة البحرينية، سواء الجمعيات النسائية، أو المجلس الأعلى للمرأة: هل تكتفي نسوة البحرين منكم برفع الشعارات وتقديم مقترح لمسودة القانون ونتائج لدراسات بشأن أهميته؟ أو تشكيل لجنة كسيحة للأحوال الشخصية لا حول لها ولا قوة، تقوم بالزيارات الموسمية وتعجز عن تحريك الملف تجنباً للصدام مع المعارضين للتقنين؟
من حرصنا الشديد على تمثيلكم لنا نحن النساء، نسألكم ماذا فعلتم كحد أدنى للمتضررات من المشكلات المزمنة على أضعف تقدير بإمكاناتكم البسيطة أو الخيالية. أما لجنة العريضة النشطة بإعلامها الضاغط، نهمس لها كما نهمس في آذان الجميع، العمل المنفرد في هذا الشأن وعلى جميع الصعد، يا أيتها النسوة لن يأتي لنا بالقانون. لن يجلب لنا إلا المزيد من التشظي والتبعثر واستمرار حال الانتظار حتى يأخذ غيركن القرار، أي قرار؟ إقرار قانون الأحوال الشخصية
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 797 - الأربعاء 10 نوفمبر 2004م الموافق 27 رمضان 1425هـ
الاحوال الشخصية
تحتاج المرأة البحرينية الى الكثير من المساعدات
الاحوال الشخصية
تحتاج المرأة البحرينية الى الكثير من المساعدات