كم نمقت الموت وهو قدر مكتوب علينا، ليس لشيء إلا لأنه يغيبنا عمن نحب ويخلف في قلوبنا الألم والحسرة والحزن... نتألم لفقد عزيز، ولكن مصابنا قد يهون علينا عندما نسمع بأم خطف الموت فلذة كبدها فحرمها من أن تملي عينيها برؤيته وهو ينمو ويكبر أمامها... ومصاب هذه الأم قد يهون عند سماعها بأم غيرها غيّب القدر - وفي سرعة البرق الخاطف - ليس واحداً ولا اثنين بل أربعة من أبنائها!... فأية حسرة سيولدها هكذا موت وأية حياة لحضن فَقَدَ من يضمه ويحنو عليه؟!
بعض المتحسرة قلوبهم منا قد يسلبه الحزن لبه وروحه ويقف في حال ذهول أو يفوض أمره إلى الخالق جلّ وعلا من دون أن يحاول الوقوف عند أسباب هذا الموت المفاجئ الذي داهم عزيزه على حين غفلة... ولسان حاله يقول: ما الفائدة من معرفة الأسباب فلن ترجع الذي راح ولن تحيي الذي مات من جديد!... وفي الضفة الأخرى نجد من يحاول النبش في كومة القش بحثا عن إبرة قد تكون هي المتسبب في زهق روح وحسرة أرواح... وعند حصد ما جمعناه تتكشف حقائق تشعل فينا نارا أكبر من النار التي كوت قلوبنا واعتصرتها ألما على حبيب ما كان ليعود!
عند مداهمة الموت لأرواح من حولنا من دون سبب نسلم بقضاء الله وقدره، ولكن عند الحوادث المرورية وحرائق البيوت وما شابه، نسلم بالقدر ونحاول البحث عن المتسبب في التعجيل بفراق الأهل والأحباب... وعند ذلك تسرد حكايات وحكايات أبطالها شهود عيان على ما جرى وكان... فنسمع ونلعن وتشتعل قلوبنا غيظا لا شك أنه سيولد بركانا يحرق كل شيء ولا يهدئه إلا لحظة الاستسلام للقدر وبأن ما راح لن يعود أبداً!
حكاية تروي تأخر سيارة الإسعاف عن الوصول إلى موقع الحادث في الوقت المفترض وهنا نتساءل: كم سيارة إسعاف لدينا، وما نقاط توقفها وتوزيعها؟ وهل القائمون على هذه السيارات وسائقوها قد تلقوا التدريب الكافي وتزودوا بالمهارات اللازمة التي تؤهلهم لتولي مهمة سوق سيارة إسعاف هي من الأهمية بما يجعلها تفوق أهمية الطبيب؟... فعليها يتوقف إنقاذ أناس علقت أرواحهم بين الحياة والموت فما كان من سيارة الإسعاف إلا أن تكون الوسيط بين الاثنين... فوظيفة بهذه الأهمية ومع كثرة التذمر من تأخر وصول المنقذ في الوقت المناسب، وذهاب أرواح إلى بارئها بسبب هذا التأخير ألا يحق لنا المطالبة بكشف حال هذا القسم المعلقة عليه أرواح الكثيرين منا والوقوف على نواقصه ومحاولة سد جوانب العجز فيه؟!
وليس الأمر معلقا على سيارة إسعاف تأخرت إذ يتجاوز ذلك إلى تخطيط الطرق لدينا فهذا واسع وهذا ضيق وهنا منعطف فجائي وذاك طريق سريع، ولكن لا تغرنك التسمية فتقع فيما لا تحمد عقباه، ففي لحظة من الممكن أن تتغير التسمية إلى طريق السلحفاة فازدحام شوارعنا أخطبوط يطول حتى الطرق السريعة وخصوصا مع خطط إدارة الطرق الفجائية أو مداهمات رجال المرور مع نهاية كل شهر... وفوق كل ذلك نسأل عن المواطنين وغير المواطنين المتسببين في تلك الحوادث... ذاك بتهوره... والآخر باستعراضه البهلواني... وغيره بعينيه اللتين ستأكل سائقة السيارة التي بجانبه... وغيرهم رجال وربما نساء أيضاً لعب الخمر لعبته بعقولهم فباتوا يتخيلونا كرة يتقاذفونها فيما بينهم أو يرمون بها بعيدا وهم عن حالهم غافلون!
كل هؤلاء تجمعوا علينا وأبوا إلا أن يفجعونا في أنفسنا وأحبتنا أو حتى الغرباء عنا، ومازال الحساب مفقودا، وكل يرمي ببلواه على الآخر وفي النهاية يفلتون هم ونبقى نحن كرة يدحرجونها ويرمونها، بل ويمزقونها وكل بحسب مهارته وقوة ظهره
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 794 - الأحد 07 نوفمبر 2004م الموافق 24 رمضان 1425هـ