يبدو أننا أمام ظاهرة جديدة تستحق من الجميع وقفة جادة قبل أن يستفحل الأمر فينحدر إلى منحنيات ومنزلقات سير قد تؤدي إلى تصادم خشن يصعب التكهن بنتائجه ونهاياته التي من المرجح أن تكون مأسوية. فبعد سنوات المعاناة من ظاهرة الشغب الذي يترافق مع البطولات الرياضية ويؤدي إلى إغلاق الشوارع وإثارة الصخب والفوضى التي يذهب ضحيتها أبرياء وينزعج من ضوضائها أطفال ونساء وشيوخ ومواطنون ومقيمون من كل الفئات، ها نحن اليوم أمام شغب آخر لا يقل انفلاتاً عن شغب الملاعب، لكنه شغب من نوع آخر يمكن تسميته بشغب المطالب.
وإذا كان النوع الأول من الشغب مستهجناً على رغم ارتباطه بمظاهر الفرح فإن من الغريب أن يلاقي شغب النوع الآخر الاستهجان ذاته على رغم ارتباطه بمظاهر الغضب والحزن والمطالب التي تدخل في الإطار المشروع في معظم الأحيان!
رسالة يجب أن يفهمها ويعمل بها الجميع سواء من يريد التعبير عن فرحه وحبه أو من يريد التعبير عن حزنه وغضبه. تريدون حقوقكم في حرية التظاهر والاعتصام والاحتجاج والأحزاب والصمت أو الكلام كل ذلك مفهوم ويجب أن يكون مكفولاً للجميع، لكن علينا أن نقدر أن للآخرين حقوقاً وحريات لا يجوز إهدارها أو التفريط بها أيضاً!
الحركة المطلبية والمناداة بالإصلاح ومحاربة الفساد الإداري والمالي بصوت عالٍ من المكتسبات بل هي من المقدسات التي لا يصح التفريط بها بل ويجب أن تراعى وتصان بشكل تام من قبل الجميع، لكن حرية الآخرين كذلك أيضاً يجب أن تكون مصونة، والسؤال: أليس هناك من وسائل أكثر تحضراً من إغلاق الشوارع وإرباك المرور والصدام مع قوات الأمن؟ الجواب: نعم بكل تأكيد. إذاً دعونا نلجأ إلى تلك الوسائل، نفتش عنها، نبتكرها، نعتاد على ممارستها ثم بعد ذلك نكرسها في حركتنا الاحتجاجية ومطالباتنا المشروعة.
حريتك تقف حين تنتهك حرية الآخرين، لأن أي إنسان له مقدار من الحرية يتسع إلى أبعد مدى، طالما أن حريته لا تؤذي ولا تتعدى على حقوق الآخرين وحرياتهم، لأنها في تلك اللحظة ستتحول من حرية إلى تجاوز، من هنا فإن حرية التظاهر وتنظيم المسيرات والاعتصامات التي نطالب بها، عندما تتحول إلى شغب يغلق الشوارع ويربك المرور تتحول إلى تجاوز غير مقبول يحتاج إلى إعادة نظر من منظمي هذه المسيرات قبل غيرهم.
حريتنا في التظاهر والاحتجاج يمكن التعبير عنها بأساليب أخرى، ماذا يضير المتظاهرين لو اصطفوا في سلاسل بشرية على مختلف الشوارع وهم يحملون لافتاتهم وشعاراتهم ويرددون مطالبهم بهدوء وتحضر؟ يسجلون احتجاجاتهم ويرسلون رسائل إلى مختلف الجهات. ماذا يضيرهم لو قاموا بالتنسيق مع الجهات المسئولة ورتبوا أنفسهم في تظاهرة سلمية في خط واحد من خطوط السير ضمن مسارات الشوارع الرئيسية، تاركين منافذ وممرات آمنة للسيارات في المسارات الأخرى من الشارع؟ هل من الممكن أن يتوافق المتظاهرون على لباس موحد يحمل إشارات معينة وألواناً معينة ويدعون إلى مطالب بعينها في أماكن تجمع لا تعوق الحركة والمرور لكنها مواقع مهمة ومؤثرة؟
هل من الممكن أن يلجأ المتظاهرون إلى اختيار شوارع معينة لها بدائل وشوارع جانبية لا تعوق السير ولا تحدث اختناقات مرورية؟ كلنا يرغب في الحرية وكلنا يطالب بأن تزداد مساحة الشفافية ويرتفع سقف حرية التعبير والنقد والمحاسبة والانفتاح السياسي والإصلاح الإداري، لكننا جميعاً مطالبون بممارسة ذلك بدرجات وعي أكبر حتى لا تتحول حركتنا الاحتجاجية من مطالب رئيسية إلى مطالب فرعية، لأن أقصى ما سنحققه في هذه الحال هو العودة إلى نقطة البداية، هذا إذا لم تحدث انتكاسات وتراجعات.
أثناء حوادث التسعينات كان الجميع يطالب بالبرلمان، فقد كان «البرلمان هو الحل»، وبتفعيل الدستور الذي أوقف العمل ببعض مواده أكثر من 27 عاماً، لكن هذه المطالب تحولت إلى المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين وعودة المفصولين إلى أعمالهم والمنفيين إلى وطنهم، لماذا؟ لأن هناك أطرافاً أخرى تشترك معنا في إدارة الحدث، قبلنا ذلك أم رفضناه، ومن دون شك فإن لهذه الأطراف حساباتها وتكتيكاتها أيضاً.
وعندما قامت العريضة الدستورية حدث الأمر ذاته، فبعد أن انقضى شوط كبير من المشروع، توقفت العريضة الدستورية وأصبح شغلنا الشاغل كيف نخرج من سُجن بسببها، وعندما أنجزنا ذلك سيطر علينا صمت القبور، ولم يعد الحوار الذي انطلق في إثرها مقنعاً لأحد إذ لا نتائج على الأرض حتى الآن، وما بين جولة وأخرى تمتد المسافة بشكل يسمح بالتراجع والتراخي والتلكؤ والتصيد، لأن خيوط اللعبة ليست في يدنا فقط.
اليوم كثيرون يطالبون بإطلاق سراح الحقوقي عبدالهادي الخواجة ولديهم كثير من الأسباب الوجيهة والنوايا الحسنة، لكن الأخيرة لا تسمن ولا تغني من جوع، فقضية الخواجة قد تتحول إلى موضوع ثانوي إذا ازداد عدد المعتقلين لأسباب مختلفة، وفي أفضل الأحوال فإن قضيته قد تغدو واحدة من بين قضايا أخرى. ومن غير المستبعد أن تفقد بريقها والزخم الجماهيري والعالمي الذي اكتسبته، وربما سيتوقف الطعن الدستوري الوجيه الذي أصر على تقديمه عبدالهادي ومحاموه.
هناك انفلات كبير قد يصل إلى سوء تقدير لحجم الفعل المطلوب وحجم رد الفعل المتوقع من قبل الأطراف الأخرى، فهل نتمكن من ضبطه وتوجيهه؟ ذلك مرهون بالدور الذي تقوم به النخبة والجهات المعنية بالأمر وهو مرتبط بالخطاب والمفردات التي يستخدمها كل طرف أيضاً.
على الجانب الآخر، فإن أجهزة الأمن مطالبة هي الأخرى بعدم تعمد إثارة المتظاهرين واستفزازهم بقصد صرف المسيرات عن أهدافها، بل إن هذه الأجهزة مطالبة بأن تذهب أبعد من ذلك من خلال توفير الأمن والحماية لهذه المسيرات التي تعتبر ظاهرة صحية إذا نظر لها من الزاوية الأخرى. المجتمع الدولي كله ينظر إلى البحرين بتقدير بالغ على مستوى إطلاق الحريات العامة وتبييض السجون، فلماذا لا تحسن الأجهزة الأمنية حفظ هذا التقدير وتعمل على تعزيز هذه الصورة أمام العالم من خلال استحداث أساليب جديدة ومقبولة في التعامل مع المعارضة والمعارضين؟
كانت السلطات الأمنية تطالب على الدوام بالتنسيق معها وتؤكد أهمية أخذ التراخيص اللازمة لهذا النوع من التظاهرات، وقد لاحظ الجميع أن الترخيص للمسيرات وتحميل جهة معينة المسئولية يساهم إلى درجة كبيرة في ضبط الأمور وتنظيم الاحتجاجات وإنهائها بشكل سلمي، فلماذا إذاً لا تتمكن السلطات الأمنية ذاتها من تعزيز هذا التوجه وتحويله إلى نهج معتمد، وخصوصاً نحن نعيش في مجتمع متشبع بالجمعيات والمؤسسات الأهلية؟
قوات الأمن مطالبة بحفظ الأمن وحفظ صورة البلد أمام الرأي العام المحلي والعالمي، وكلما أبدعت هذه القوات في فرض احترام النظام بالتفاهم والانسجام وابتعدت عن استخدام القوة والعنف والترهيب، استطاعت أن تخدم المشروع الإصلاحي وأن ترسل إشارات للجميع بأهمية تطوير الأساليب لترقى لمستوى هذه الممارسة المتقدمة.
قوات الأمن مسئولة عن توفير الحرية للجميع وحمايتها أيضاً، لأن مفهوم الأمن هو الشعور بالأمن وليس الشعور بالقمع والاضطهاد سواء كان ذلك بالنسبة إلى المشاركين في المسيرات أو غيرهم. إذاً ليس من المعقول أو المقبول أن تقيم هذه القوات حواجز أمنية لفرز المواطنين على الظنة والشبهة، وليس مقبولاً أن يسمح لغير البحرينيين بعبور هذه الحواجز بسهولة ويسر، ثم يوضع غالبية البحرينيين العالقين في هذه الحواجز موضع الشك والريبة وكأن الحاجز يقول «أنت بحريني إذاً أنت متهم بالمشاركة في الشغب».
سؤال يبحث عن إجابة مقنعة: ألم تكن الأجهزة الأمنية على علم بهذه المسيرات؟ ما الخطوات التي اتخذتها لضمان تحركها بسلاسة ويسر وهدوء واطمئنان؟ كلنا يعرف الاحتياطات الأمنية التي اتخذتها والمتمثلة في الاستنفار الأمني عبر تجهيز قوات مكافحة الشغب، فقد رأينا آثار ذلك وقرأناه وشاهدناه على صفحات الصحف وشاشات الفضائيات، لكن أحداً منا لم يسمع عن استعدادات من نوع آخر، استعدادات من النوع الذي ينظم ويوجه ويتباحث وينسق مع مختلف الأطراف لضمان سير الأمور كما يجب.
أعتقد أن الجهات الرسمية مطالبة بالتعامل مع المسيرات من منطلق أهمية إدارة الحدث وليس من منطلق مواجهته وقمعه، وهي مطالبة بتوظيف ذلك لصالح الانفتاح وتعزيز الحرية وحقوق الإنسان وليس لصالح القمع وتقديم مادة إعلامية سلبية تسيء إلى سمعة البحرين وتوفر فرصة سهلة لمن يريد أن يقول بعدم استقرار الأوضاع في البحرين من الفضائيات والإذاعات. كما أن الانفتاح الذي نطالب باستمراره وتعزيزه لا يتفق مع البحث في الأدراج عن القوانين التي أكل الدهر عليها وشرب وصارت جزءًا من التراث الذي نريد أن نتجاوزه ونتناساه، لذلك فإن استخراج القوانين المكبلة للآراء لا يتناسب مع لغة هذا العصر، ويتناقض مع الصورة التي نريدها لبلدنا في العالم، فأي عاقل هذا الذي يقبل استخدام قانون منع التجمع والتجمهر لأكثر من 5 أشخاص في البحرين، ومن ثم تعريضه لتهمة تصل عقوبتها إلى 5 سنوات... أين المنطق في هذا الأمر؟
الحرية مسئولية الجميع بقدر ما هي حق للجميع أيضاً فلنحافظ عليها ولنعمل على تطويرها والعناية بها. ويقيناً، فإنه حين تكون الحرية مسئولة ... يتقدم الوطن
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 794 - الأحد 07 نوفمبر 2004م الموافق 24 رمضان 1425هـ