يا للتاريخ المتجدد، ويا للزمن الذي بدأ يعود... عندما يضيق صدر الدنيا فتشتعل حنقاً وتستشيط غيضاً، لكلمة حق تقال. ما لهؤلاء القوم لا يحتملون الحقيقة؟ وما لهم تهاب جبروتهم نبرة الحق؟وما لهم لا يفقهون؟!
في الامس القريب، بتقارب الزمن الممتد من لحظة ظلم الى أخرى... جاءت بعد ان انهكها الطريق وطول المسافة، تطلب لقاء «الحاكم»، جاءت تجر اثوابها على بغلة هزيلة من عمق أزقة البصرة، تطوي مسافة العزة والكرامة بين التلال والدروب الوعرة، حتى وصلت الى قصور الشام... وقفت شامخة امام «قصر الرئاسة»...
ماذا تريدين يا أمَةَ الله؟
- أريد ان ألاقي الحاكم.
أنى لمثلك ان تلقى الحاكم؟
- قولوا له اني امرأة قطعت الطريق من البصرة الى هنا، تحمل شكوى خطيرة.
وبعد تمحيص وتدقيق، وبعد ذهاب وإياب (تماما كما لو كنت تطلب لقاء مسئول «صغير» في زمننا الحاضر) سمحوا لها بالدخول، تخطت كل أبواب الحراسة حتى وصلت ووقفت أمام الحاكم:
ما الذي جاء بك من البصرة؟ مم تشكين؟
- أصلح الله الحاكم... جئت أشكو من ظلم وبطش واليكم على البصرة.
وماذا فعل؟
- عاث في البصرة فساداً، ونهب حقول الناس وأموالهم فضجوا من شدة الجوع والفقر، وكانت لدي بعض الحقول أعطيتها للفقراء لكي يتاجروا بها ويسدّون رَمَق الجوع والحرمان، فلم تسلم حقولي من سطوة الوالي.
ما أجرأك من امرأة... ما اسمك؟
- سودة الهمدانية.
اصفر وجه «الحاكم» وأخذ يتذكر برهة وهو يتفرس وجه المرأة... ثم سألها:
ألستِ أنتِ التي كنتِ تؤلّبي رجال عليّ وتحرضيهم علينا في حرب صفين؟
- بلا، أنا التي خرجت أرفع هِمم الرجال لنصرة الحق يوم صفين.
إذاً أتيت برجليك الى الموت.
حكم بالإعدام
صدر الحكم الفوري بالإعدام (وما أسرع الأحكام الفورية بالاعدام، التي تقلب المطالبة بالحقوق الى محاولة انقلاب على الحكم)، وفيما كانت تنتظر مجيء السيّاف توجهت بوجهها ناحية النجف ودموعها تترقرق على خديها وراحت تتمتم ببعض أبيات من الشعر سمعها الحاكم وحاشيته، من ضمنها
صلى إلا له على روح تضمنها
قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً
فصار بالحق والإيمان مقرونا
سألها الحاكم: ماذا تعنين بذلك؟ فقالت وهي باكية: «رحم الله أبا الحسن، حدث في عهده ان عاملني والي البصرة آنذاك بشيء من الغلظة فتوجهت الى الكوفة ووصلت الى المسجد فرأيت علياً واقفا على المنبر يخطب في الناس فدنوت منه وشكوت له أمر الوالي، طأطأ الإمام برأسه وبكى قائلا: «ماذا سأقول إلى ربي غدا؟» ثم كتب لي كتابا بعزل الوالي من تلك الساعة.
أما أنت فجئتك الى الشام بعد رحلة شاقة وأيام طويلة ولا أشكو لك غلظة بل اشكو نهباً وبطشا وفسادا وها أنت تأمر بإعدامي! لقد ماتت العدالة ودفنت بموت علي ودفنه».
عند ذلك بكى (معاوية) ومن معه ثم أمر بالعفو عنها.
الاقتراب من الحقيقة...
تلك هي قصة الظلم التي لا تنتهي... وذلك هو عليّ الذي سيبقى مدرسة العدالة الانسانية على مدى الدهر، تستنير الشعوب بعدالته وهديه، ويعمى حكام العالم عن النظر في تراثه الحقوقي، ليستمر الظلم والبطش على هذه الأرض ولا مناص.
أما نحن فسنبقى كلما مرت ذكرى لعلي نتحسر على تلك الأيام الخوالي ونتذكر تلك اللحظات العصيبة التي خرج فيها من الدنيا وترك المظلومين في كل عصر وفي كل مكان يصرخون من هول الفجيعة. ونستوحي تلك المناقب العظيمة التي خلدها له التأريخ ورأينا كيف أن منظمات الحقوق في دول الغرب بدأت تستفيد منها في رسم معالم الحرية والمساواة بين شعوب الأرض.
ومناقب شهد العدو بفضلها
والفضل ما شهدت به الأعداء
هكذا نقترب من الذكرى نستلهم فكراً يمدنا فكراً ونستضيء نوراً يمدنا نوراً... هكذا نكون بجنب علي (ع) دائما في عدالتنا وفي تقوانا وفي ورعنا وفي أخلاقنا... عليٌّ، ذلك الامتداد الايماني لخط رسول الأمة المصطفى محمد (ص) فطوبى للمحمديين وللعلويين في مسيرتهم الفكرية
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 791 - الخميس 04 نوفمبر 2004م الموافق 21 رمضان 1425هـ