يعيب الغربيون على الممارسة السياسية في معظم دول العالم الثالث انها لا تنبع من مؤسسات دستورية بقدر ما تكون نتاج شخصية الحاكم، حتى وان وجدت المؤسسات التي يفترض ان تمارس السياسة وتصنع القرارات.
وقد شبه عالم الاجتماع الفرنسي الأشهر غوستاف لوبون الممارسة السياسية في دول العالم الثالث بقصة الفلاح والقرد في افريقيا ، حيث اعتادت القرود ان تساعد الفلاحين في بناء اكواخهم. وتبرز هذه المساعدة في قيام القرود بتقليد الفلاحين حد المحاكاة في عمليات البناء. ولكن بعد الانتهاء من البناء فإن الفلاحين يدخلون مساكنهم ليناموا داخلها، فيما تصعد القرود الى سطحها لتنام فوق تلك الاكواخ.
ويخلص لوبون من هذه القصة ليقول ان الطبع يغلب التطبع . وبالتالي فإن زعماء العالم الثالث وان قاموا ببناء المؤسسات الدستورية؛ فان هذه المؤسسات تظل في ممارساتها محكومة بتوجهات الزعيم الحاكم للدولة. وان الزعيم الحاكم يظل فوق هذه المؤسسات. وهذا يطبع كل الممارسة السياسية في معظم دول العالم الثالث بشخصيات حكامها. ولا تختلف هنا النظم الجمهورية عن النظم الملكية في جوهر الممارسة السياسية بهذا الخصوص.
ويبدو ان انتشار الديمقراطية في دول العالم الثالث لم يخفف من شخصنة الممارسة السياسية فيها بقدر ما نقل عدواها الى البلدان التي تصنف عادة في قمة التطور الديمقراطي. ولعل شخصنة الممارسة السياسية في النظم الديمقراطية باتت اكثر وضوحا في مجال السياسة الخارجية مع ان السياسة الخارجية بالمفهوم التقليدي هي حركة لا يمكن ان تكون صادرة الا من الدولة أو توابعها، وبعبارة اخرى هي حركة حكومية. والعمل السياسي الخارجي من حيث طبيعته ليس الا انتزاع المكاسب أو حماية الدولة من عدوان متوقع. من هذين المتغيرين تحددت خصائص ومستويات العمل السياسي الخارجي.
لكن التطور في تكنولوجيا الاتصالات أعاد تشكيل العمل السياسي وأفرز بيئة جديدة في نطاق العمل السياسي الخارجي وأدى الى التغيير النسبي في أدوار ومؤسسات العمل السياسي بما فيها وزارات الخارجية والبعثات الدبلوماسية واهم المتغيرات التي انبتها هذا التطور ما يعرف بـ «شخصنة السياسة الخارجية Personalization of Foreign Policy»، هذه الشخصنة ليس مردها فقط الادوار الشخصية التي يلعبها رؤساء الدول التي تعاظمت في السنوات الاخيرة عبر ما سُمي بـ «دبلوماسية الهاتف والاتصال الشخصي المباشر» كما ذهب الى ذلك عالم السياسة الاميركي سولمون؛ وانما ايضا تحويل السياسة الخارجية لتصير هدفا لتحقيق اغراض شخصية، والدلالة على ذلك واضحة في الكثير من تطبيقات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية التي تعد ديمقراطية، معيارا للنموذج الديمقراطي الذي يجب ان يسود العالم .
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فالتدخل العسكري الاميركي في هاييتي العام 1994 استهدف من ورائه الرئيس كلينتون محو الانطباع السائد لدى الرأي ال العام الأميركي بأن رئيسه «طريّ» وذلك قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني من تلك السنة.
وفي ظل التنافس الانتخابي بين كلنتون والمرشح الجمهوري بوب دول العام 1996 اختار كلينتون ان يوجه عمليات قصف عن بعد بالصواريخ والطائرات الى بغداد، الامر الذي جعل صحيفة الواشنطن بوست تعبر عن المغزى الشخصي لعمليات القصف تلك عبر تعليقها الكاريكاتيري الذي ظهر فيه كلينتون وهو يوجه صواريخه وطائراته نحو بغداد ويوصي ضباطه بالقول «اضربوا بغداد بعنف فإن معركتنا شرسة مع بوب دول».
ومرة اخرى اختار كلنتون العراق ليكون هدفا حربيا لأميركا اواخر العام 1998 لانه كان يواجه مساءلة من قبل الكونغرس والرأي العام الاميركي بسبب فضائحه النسائية وبالاخص فضيحة مونيكا، وكان بحاجة لفعل أي شيء لحرف الانظار عن تلك الفضيحة، فاختار ان يطلق على العــراق 415 صاروخا فيما شــنت الطــائرات الاميركية 750 غارة ألقت خلالها الاف القنابل .
والامر تكرر مع الرئيس بوش الذي ظل التشكيك في فوزه في الانتخابات يلاحقه، فاختار - وخلال الشهر الاول لتسلم ولايته - أن يضرب بغداد في فبراير/شباط 2001، وعندما وجد رموز إدارته انفسهم في لجة فضائح الفساد الاقتصادي التي كانت سببا لانهيارات الافلاس التي طالت كبرى الشركات الأميركية ، فانهم اندفعوا في اثارة نوازع الانتقام لدى الرئيس الأميركي للثأر لوالده من الرئيس العراقي، حتى ان بوش الابن لم يخف هذا الجانب الشخصي في جنوحه نحو شن الحرب ضد العراق بهدف الاطاحة بنظام الرئيس صدام حسين حتى ذكر في خطابه بالامم المتحدة ان النظام العراقي اتهم في محاولة اغتيال الرئيس الاسبق للولايات المتحدة. بل انه في خطاب اخر موجه للاميركيين تخلى عن مفردات اللباقة والكياسة ليقول «ان صدام حاول اغتيال والدي».
والحقيقة ان شخصنة السياسة تتجاوز في جوهرها المؤشرات السابقة لتخضع للوبيات الضغط التي تبحث عن منافعها او المنافع المالية للشخصيات الاساسية في هذه اللوبيات. وهذا طبيعي في ظل طغيان حرية الاسواق في المجتمعات المعاصرة، وفي ظل ارتفاع أهمية الاقتصاد في العلاقات الدولية وفي صياغة القرارات السياسية على المستوى الداخلي للدول المختلفة. ومن الطبيعي في مثل هذا الحال ان يرتفع ممثلو الاقتصاد من رجال اعمال واصحاب مصالح تجارية واقتصادية في التأثير وتشكيل السياسات لبلدانهم واجبار صانعي القرارات السياسية على اتخاذ مواقف سياسية معينة تستجيب احيانا لمصالح شخصية او مصالح ضيقة.
ويبدو ان شخصنة الممارسة السياسية ترتبط اساسا بآلية الممارسة الديمقراطية وبالأخص في الدول الغربية، فإذا كان الحصول على وظيفة عضو كونغرس يتطلب صرف عدة ملايين من الدولارات على حملة الانتخابات الواحدة، فكيف يمكن لمن يتصدى لمثل هذه الوظيفة ان يسلك مسلكا وطنيا؟ او اليس من المنطقي ان يمارس مهامه تحت بواعث الربح والصفقات الرابحة؟ والاجابة على هذا السؤال تسلط الاضواء على سؤال آخر: لماذا اتسع نطاق الفساد السياسي والمالي في الدول الغربية فيما كان مثل هذا الفساد حكرا على دول في العالم الثالث؟
العدد 79 - السبت 23 نوفمبر 2002م الموافق 18 رمضان 1423هـ