يروى أن أحد تلامذة ابن سينا كان يقول له: لو أنك بهذا الذكاء والفهم الخارق للعادة ادّعيت النبوة لالتف حولك الناس. إلا ان ابن سينا لم يكن يرد عليه بشيء. حتى جمعتهما سفرة في أيام الشتاء... وعند الفجر من إحدى الليالي أيقظ ابن سينا تلميذه وطلب منه أن يأتيه بقليل من الماء لإرواء عطشه. فراح التلميذ يتعلل وينحت الأعذار لكيلا يغادر فراشه الدافئ في تلك الليلة الباردة على رغم كثرة إلحاح أستاذه عليه.
في تلك اللحظة ارتفع صوت المؤذن من المئذنة (الله أكبر... أشهد أن لا إله إلا الله... أشهد أن محمداً رسول الله...)، فاغتنم ابن سينا الفرصة وقال لتلميذه: ألم تكن تحرضني على ادعاء النبوة وتقول: ان الناس سيؤمنون بي وسيتبعوني؟ ولكنك - وأنت تلميذي منذ سنوات، وقد استفدت من دروسي - لم يكن لي عليك ذلك النفوذ الذي يخرجك من فراشك دقائق معدودة لتأتيني بالماء. ولكن هذا المؤذن يصدع بأمر نبيه بعد أربعمئة سنة، فينهض من نومه الهنيء وفراشه الدافئ ليصعد المئذنة ليشهد بوحدانية الله (تعالى) وبرسالة محمد (ص)، فانظر ما أبعد الاختلاف!
سر الولاء والانتماء....
كنت أحاول الشروع في كتابة شيء عن سر ارتباط الملايين من الناس بشخصية الإمام علي ابن أبي طالب (ع)، وبقاء هذه العلاقة الوثيقة متأصلة بجذورها على رغم مرور ما يقارب 1380 عاماً هجرياً على وفاته. فاستوقفتني هذه القصة التي تدلل على ان الأتباع والموالين لا يصنعهم الفلاسفة ولا الملوك ولا أقطاب التصوف أو قادة الاجتماع. فهؤلاء إنما يصنعون تلامذة أو أتباعاً مؤقتين ما داموا رهن سيطرة قادتهم. ولكن الذين يصنعون الأتباع الحقيقيين الذين يتوارثون الولاء من جيل إلى جيل بوعي وبصيرة هم أولئك القادة العظماء الذين يجتمع فيهم فعل الفيلسوف وفعل القائد الثوري وفعل عالم الدين وفعل القائد الاجتماعي.
علي (ع) عرفه التاريخ نموذجاً نادراً في شخصيته وفي قيادته التي تشرّبها من خصال الرسول الأكرم (ص). لذلك استطاع أن يكوّن من خلال صفاته قطباً جاذباً للقلوب، وتمكن من ملايين المشاعر بأفعاله التي تشبه أفعال الأنبياء وحركاتهم. حتى تحيرت في كنهه العقول القاصرة عن إدارك طبيعة الإرادة الإلهية في العبد المؤمن الذي يصل إلى أعلى مدارج الكمال. فأَحبَّهُ من أحبه وكَرِهَهُ من كرهه!
لماذا لم نستوعب علياً بعد؟
كان علياً (عليه السلام) يعرف أنه بهذا البحر المتلاطم من المناقب والخصال وتلاقي الأضداد سيشكل مفترق طرق، لأن شخصيته بهذا العمق السحيق لا يقدر على فهمها من حجب الله عنه نور الهداية. لذلك كان يأمر الناس بالولاء المتوازن الذي لا يخرجهم عن عبودية الله وطاعة نبيه ولا يحرفهم في الوقت نفسه عن جادة الطريق، فكان يقول: «هلك فيّ اثنان، محب غالٍ ومبغض قالٍ».
«إن علياً (ع) قبل أن يكون إماماً عادلاً للناس ويحكم بينهم بالعدل، كان إنساناً متعادلاً متوازياً في ذاته، يجمع فيها الكمالات الانسانية كلها، كان إلى جانب عمق تفكيره وبعد نظره يتمتع بمشاعر عاطفية رقيقة». هكذا كان الإمام كما يراه الشهيد المطهري. لذلك كان من الصعوبة بمكان أن يفتقد العالم شخصية بهذا الحجم، فكيف سيكون الأثر البالغ على الدين الاسلامي الذي سيسقط عمدٌ وركن أساسي من أركانه؟ إنها لحظة المأساة وإنها لخسارة كبرى... ثغرة لا يسدّها شيء.
«تهدمت والله أركان الهدى»
موقف تقشعر له الأبدان... سمعنا كثيرا عن خطبة الرسول الأعظم (ص) بمناسبة حلول شهر رمضان، وربما مر علينا هذا المقطع من الرواية: «فيما كان الرسول (ص) يتحدث في خطبته قام علي (ع) وقال: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله (عز وجل). ثم بكى النبي (ص) فقال علي: ما يبكيك؟ فقال: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر! كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضّب منها لحيتك. قال الإمام: وذلك في سلامة من ديني؟ فقال النبي (ص): في سلامة من دينك.
كانت الليلة الموعودة... ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، وكان الإمام في دار ابنته أم كلثوم عندما أفطر على الخبز والملح ثم راح يكثر من الخروج والدخول وهو ينظر إلى السماء ويقول: اللهم بارك لنا في لقائك. وما ان حانت ساعة الفجر حتى خرج إلى المسجد للصلاة. كان عبدالرحمن بن ملجم له بالمرصاد، انتظر الإمام إلى أن يسجد ثم هوى عليه بسيفه. خرّ الإمام يسبح بالدماء في محرابه. اصطفقت أبواب المسجد وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل بين السماء والأرض: «تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل ابن عم محمد المصطفى، قتل والله الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتله أشقى الأشقياء».
وهكذا توقفت عقارب الزمن في تلك اللحظات المؤلمة، واغرورقت عيون التاريخ بالبكاء، وطأطأ الكون رأسه حزناً وأسى. ألم يكن هذا الذي قال فيه المصطفى (ص) يوماً: «لولا أنت يا علي لما عُرف المؤمنون بعدي»؟! ترتعد الأفلاك وتدوّن الملائكة نداء السماء بكلمات ممتزجة بعبق ذلك الدم الطاهر:
«قتلتم الصلاة في محرابها
يا قاتليه وهو في محرابه»
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 789 - الثلثاء 02 نوفمبر 2004م الموافق 19 رمضان 1425هـ