أمام المراقب، والمعركة الانتخابية الأميركية تلفظ أنفاسها الأخيرة، صورتان للحوادث الدائرة في العراق، وتأثيرها المستقبلي على المنطقة.
الصورة الأولى هي أن العراق ينزلق الى حرب أهلية، وكان الحديث حتى بالتلميح والاحتمال عن حرب أهلية في العراق، قبل سقوط النظام السابق، يثير كثيراً من النفور بين شخوص المعارضة من نخب العراقيين، وأن ما كانوا يسمونه بـ «الوطنية العراقية» ستقف سداً منيعاً أمام أي تنافر عرقي أو طائفي، بعد سقوط النظام، ويحل الوئام السياسي بين الفئات المتعارضة في العراق، لأن هذا التنافر والتعارض المشاهد - تقول تلك النظرية - هو من «صنع النظام الدكتاتوري».
هذا الدفاع العاطفي، تكذبه الحقائق الموضوعية على الأرض، فالإشارة الى قتل مئة ألف عراقي، دفعوا حياتهم ثمناً للصراع الدائر، منذ أن توقفت الحرب رسمياً لأكثر من عام مضى، ليس مزحة صغيرة، ولا هو برقم عادي، وهو يعني فيما يعنيه، أن هناك «حرباً أهلية عراقية» تدور رحاها بقسوة، يذهب ضحيتها عراقيون أبرياء، وأن «الوطنية العراقية» المفترضة لم تستطع أن تحل المشكلات العميقة والمتجذرة في الساحة السياسية العراقية، الفئوية والطائفية والعرقية، والتي ربما بدأت مع انحسار السلطة العثمانية عن العراق، بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تقتلع جذورها ولم تسوّ أسبابها بطريقة سليمة منذ ذلك الوقت، بل تمت تغطية آثارها المدمرة، بالكثير من الشعارات الزاعقة، والكثير من الانقلابات الدموية والحروب المدمرة، إلا أن أسبابها الحقيقية لم تعالج حتى اليوم، وهي تنفذ سمومها اليوم كما نشاهد ونعلم.
التركيبة المعقدة وغير المتناغمة في النسيج العراقي، لم تسمح بمساحة لأي تخطيط مهما كان دقيقاً، أن يعرف على وجه الدقة ما يمكن أن يحدث في اليوم التالي، من الاحتلال الأميركي للعراق، وكل الحديث الدائر عن قصور في التخطيط الأميركي تجاه ما بعد الحرب، هو ذر الرماد في العيون، وتقود هذه الفوضى الى حتمية قد تكون مرسومة.
ما يحدث في العراق هو حرب أهلية، وإن سميت بتسميات أخرى، طرفاها الأساس أن الطائفتين الكبيرتين «الشيعة العرب والسنة» تتنافسان على السلطة. الأولى تطمح في الحصول عليها كاملة، لأنها غالبية وغُيّبت لزمنٍ طويلٍ عن مركز القرار الحقيقي، والثانية تدافع عن «حق تاريخي» لها منذ فترة تاريخية طويلة، كان حكم العراق متاحاً لها من دون منازع أو شريك.
بين هذين الموقفين يأتي موقف الأكراد، الذين تعلّموا ولو بصعوبة شديدة، أن اختلافهم هو ضعف لهم جميعاً، كما تعلموا استحالة قيام دولة كردية مستقلة، كما كان آباؤهم يحلمون، فاكتفوا بأن يكون لهم نفوذٌ حقيقيٌ في بغداد، واستقلال نسبي في الشمال.
بين الشقين الأساسيين في العراق وتفرعاتهما، تتداخل مجموعة من العوامل، منها على سبيل المثال لا الحصر، التصارع باسم «المذهب» أو «الدين» أو «محاربة المحتل»، ولكنها في نهاية الأمر، تفاصيل تكمل الصورة ولكنها ليست في صلبها.
الصورة الثانية هي التصور الأميركي، والمنشور في عددٍ من الوثائق، الذي يقول إن الشرق الأوسط مصدر توترات عميقة قد تعصف بالأمن الدولي، وإن صلب هذه التوترات هو «الركود السياسي» وخصوصاً في منطقة الشام الكبرى (التي تحتضن فلسطين)، وهي بؤرة الصراع لنصف قرن أو يزيد. وتذهب ريشة المخطط لتكمل بالقول، ان التغيير في الشام الكبرى يجب أن يتم، وأن ذلك التغيير يجب أن يكون جذرياً حتى العظم، كي يصبح مؤثراً. وليس أفضل من العراق، بظروف نظامه السابق، أن يكون محطة اختبار للتغيير ومنطلقاً لها أيضاً.
أمام هذه الاستراتيجية، يكون العراق هو محطة تجارب حقيقية للتغيير في المنطقة ككل، وقد يتراوح هذا التغيير، أما بإقامة دولة تعددية «شبه ديمقراطية» من ثلاث مناطق فيدرالية (وهو أمر يكون الوضع فيه كالوضع في لبنان، مع الدولة الراعية هذه المرة هي أميركا) أو يعود التقسيم في العراق الى ما كان عليه أيام الدولة العثمانية، أي خلق ثلاثة كيانات شبه مستقلة ومتناحرة.
ولن تكون الولايات المتحدة في أي من السيناريوهات المختلفة بعيدة عن تحقيق أهدافها أو خاسرة، فقد تتحقق الاستراتيجية ذات الشقين، أولا إحداث تغيير جذري، والثاني انقلاب في موازين القوى في شرق المتوسط وفي الخليج، شاملة وعميقة.
أما الحديث عن ترك الأميركان العراق وشأنها كما يحلم البعض فهو حلم ليس له علاقة بالواقع، ومهما كان شكل الإدارة في واشنطن، جمهورية شعارها الفيل أو ديمقراطية شعارها الحمار، فان الهدف البعيد واحد، هو مصلحة الولايات المتحدة، التي لا تتغير بتغير الأشخاص.
فقدرة أميركا للربع قرن المقبل على التحرك بفاعلية في النظام الدولي الجديد، هو قدرتها على البقاء وإحداث التغيير في العراق، تلك حقيقة كلما اقترابنا منها استطعنا أن نرى الصورة من دون رتوش أو ضبابية، فالخسارة المطلقة في العراق أكبر ما تتحمله الولايات المتحدة أو تصبر عليه.
ما يحدث في العراق اليوم من خطف وقتل عشوائي هو (فرهود، مستجد) لا أكثر، والفرهود، كما هو معروف عراقياً، يعني السلب والنهب، في حال ضعف السلطة المركزية أو انهيارها، وهو أمر ليس بجديد، تنبهت إليه القوى المختلفة التي احتلت العراق، كالعثمانيين والانجليز، فحكّمت في الناس قياداتهم الطبيعية (رؤساء العشائر ورجال الدين) وهو أمر لم يغب عن السلطة الأميركية الحالية. كل ما تحتاجه هو الوقت لا أكثر، وهو زمنٌ تحتاجه للتكيف من أجل حل التناقض بين عسكرة المجتمع العراقي إبان الحكم السابق وإضعاف سلطة القوى التقليدية (العشائر ورجال الدين) وبين عودة تلك السلطة التقليدية للمساعدة في ضبط الأمن.
لم يكن اختيار العراق من قبل الولايات المتحدة كهدف للتغيير، هو اختبار عشوائي للتأثير في المنطقة، من يعتقد ذلك ربما عليه أن يراجع نفسه من جديد، صحيح أن سياسة النظام العراقي السابق سهّل الاختيار، ولكن لم يفرضه، فالعراق هي قلب الشام الكبرى تاريخياً والمؤثر في جناحيه، شرق المتوسط والخليج، ومع ازدياد ثورة الاتصال اليوم أصبح العراق قلب الشرق الأوسط.
الإخلال بتوازن القوى شرق المتوسط، سيحدث خللاً في توازن القوى في الخليج، الذي استمر لفترة طويلة قائماً على توازن خارجي، أو ابتعادي عن مركز التغيير، الأمر الذي لن يعود كذلك في القريب، إن لم تكن هبّاته الأولية قد بدأت ساخنة من حولنا.
التغييرات في واشنطن مهما كانت نتيجة تصويت اليوم في الولايات المتحدة، لن تغير في قراءة الواقع. أنها تغيرات لن تنفذ الى الجوهر، جوهرها ثابت، لا يتغير بتغير الأشخاص.
الصورتان الأولى والثانية التي عرضناهما، ليستا منفصلتين أو متناقضتين، فكلاهما تعضد الأخرى، وكلاهما تحقق الاستراتيجية المرسومة، المشكلة أنهما تتكاملان بمساعدة واعية او غير واعية من اللاعبين الثانويين، في العراق وقريباً منه
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 788 - الإثنين 01 نوفمبر 2004م الموافق 18 رمضان 1425هـ