حوالي ثلاثة أيام ويتجه الاميركيون الى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم حتى نهاية العام 2008. ومع بدء العد العكسي لهذا الاستحقاق الذي تنشدُّ اليه الانظار والاهتمامات الدولية، تحتدم بل تلتهب المنافسة بين بوش وكيري، بحيث غدا الفارق بينهما بمقدار شعرة. فحسب التقديرات هناك تقريبا مليون صوت - من اصل 110 ملايين - لا تزال في مهب الريح. من يذهب له معظمها تحسم المعركة لصالحه. وكأنها انتخابات العام 2000 تتكرر للمرة الثانية. وأوحت شدة المزاحمة، مع ضآلة الفارق بأن سباق الحصانين مازال في الميزان وان الرئاسة قد تكون لبوش بقدر ما قد تكون لخصمه كيري.
بلغة الارقام والاستطلاعات هذا صحيح سيما وان ما يتقدم به بوش على منافسه - نقطتين الى اربع نقاط - قد يتلاشى بحكم انه يزيد عن مقدار الخطأ المحتمل في الاستطلاعات والذي يتراوح بين 3 نقاط زيادة وبين مثلها بالناقص، بحسب القواعد التي تحكم هذه العملية لكن بلغة الواقع الانتخابي، الصورة مختلفة ذلك ان المقياس في الاساس، ليس الرقم بل المسار الذي تتخذه عملية تسويق المرشح وبرامجه وطروحاته. وهنا يكمن العطب والقصور في حملة الديمقراطي كيري، بصرف النظر عن مدى اقترابه الراهن من بوش. وبهذا فان حاله تشبه الى حد بعيد حال سلفه آل غور. فهذا الاخير انطلق من وضع ولا افضل من حيث ملاءمته للفوز بالرئاسة. جاء من ادارة كان شريكه فيها لمدة ثماني سنوات، عرفت اميركا خلالها ما يشبه العصر الذهبي. ومع ذلك بدد غور هذا الرصيد الذي لم يشفع به، بسبب تعثر وتذبذب حملته التي لم تقو على الاقلاع الواثق.
السيناريو نفسه تقريبا. يتكرر في هذه الانتخابات فعلى الرغم من كل الرصيد السلبي للرئيس بوش - حربه المفضوحة وورطته المكلفة في العراق، الرقم الخرافي الذي بلغه عجز الموازنة، ركود اقتصادي، وصول سعر برميل النفط إلى اكثر من 50 دولاراً- عجز كيري ليس فقط عن اكتساح الساحة الانتخابية بل حتى عن تسجيل نقاط زيادة ولو هزيلة على خصمه. في الاستطلاعات كافة بوش متفوق عليه ولو بالقليل. والمهم بل الملفت ان كيري اقترب من بوش لان رصيد هذا الاخير هبط وليس لان اسهم الأول ارتفعت. ترجمة ذلك انه ايضا لم يقع على الاقلاع. واذا تشابهت الاسباب والمعوقات بين حملة كيري وحملة غور، يكون من باب تحصيل الحاصل ان تتشابه النتائج.
- لماذا تعثر كيري وبات على عتبة الهزيمة؟
كان من المفترض والمنطقي ان تنطلق حملته بزخم يكفل اندفاعها المتواصل، مستفيدة من الخسائر الفادحة والسياسات الخطيرة التي راكمتها ادارة بوش لكن ما حصل انها من البداية بدت مرتبكة وبلا زخم ملحوظ، الامر الذي حكم عليها بالمراوحة والركود، ولا مرة وصل تأييد كيري إلى الخمسين في المئة، استقر في اواسط الاربعين في المئة. وفق استبيانات الرأي كافة وعلى مدى الاشهر الثمانية الماضية، وبقي هناك حتى اللحظة فوقعت حملته في الترهل. ويعود هذا الوقوع في الاساس الى فشل كيري في النقاط او في وضع اصبعه على العصب الحساس في هذه الانتخابات والذي يشكل المحرك الرئيسي لتوجهات الناخبين وهو الامن الشخصي للمواطن الاميركي. فهذا البند بات الهاجس الاول والهم الطاغي لدى الرأي العام الاميركي بعد 11/9 الذي ادخلت حوادثه الرعب الى نفوس الناس في الولايات المتحدة. وبدلا من التركيز على هذا الجانب وتقديم برنامج يؤدي الى اشاعة الاطمئنان وبناء الثقة بقيادته - مثل عرض خطة مقنعة لمحاربة الارهاب - اختار التصويت على العراق وحربه المفتعلة وما انتهت إليه. كانت حساباته ان تسليط الاضواء على هذا الملف والمآخذ المتداول حوله تزعزع الثقة الامنية بادارة الرئيس بوش وبالتالي الاطاحة بها في الانتخابات. لكن استخدام هذا السلاح ارتد على صاحبه، عندما ردت حملة بوش على كيري بعض شريط مواقفه المتذبذبة بخصوص الحرب على العراق والتي تراوحت بين تصويته في مجلس الشيوخ بتأييد هذه الحرب على قاعدة عبارته الشهيرة: «لقد انتهى وقت الدبلوماسية»، وبين ارتداده خلال الحملة على هذا الموقف واطلاق عبارته الشهيرة هي الاخرى: «الحرب الخاطئة في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ». في ضوء ذلك بات في نظر الاميركيين، كيري وليس بوش هو الذي لا يؤمن في قضايا الأمن القومي والشخصي، خصوصا وان الرئيس اقنع مواطنيه على ما يبدو بانه المؤهل لأخذ الحرب الى ديار الارهابيين قبيل ان يهاجموا الديار الاميركية يدل على ذلك الانقلاب الكاسح في صفوف المرأة التي وقفت باستمرار وبقوة الى جانب المرشح الديمقراطي خصوصا في الانتخابات السابقة. اليوم يحظى بوش بتأييد عارم في صفوف النساء الاميركيات لسبب واحد: انه «يوحي بالثقة» لتوفر الحماية والامن للاميركيين سيما وان الساحة الاميركية لم تشهد اية عملية ارهابية منذ ما بعد 11 سبتمبر.
اضافة إلى سقوط كيري في هذا الجانب الاساسي هناك جوانب اخرى كان لها تأثيرها في ترهل حملته الانتخابية. منها الارتباك الذي سادها، في مقابل فريق جمهوري ابدى براعة في ادارة حملة بوش لجهة الثبات في الطرح وعدم التزحزح عنه مهما كان مجافيا للحقائق وللمعروف. الامر الذي استهوى الغالبية، على ارضية المقارنة مع ضبابية المقاربات التي طرحها كيري والجمهوريون اكثر مهارة عادة في تسويق بضاعة مرشحهم لو كانت مغشوشة، كما في تشويه وتشبيع بضاعة خصمهم الديمقراطي. يضاف إلى ذلك انه من النادر ان ينتخب الاميركيون عضواً راهناً في مجلسي النواب والشيوخ رئيسا لهم. لقد حصلت مرة واحدة خلال المئة عام الماضية عندما صوتوا العام 1960 للسناتور جون كنيدي فالاحزاب عادة تختار مرشحيها من خارج الكونغرس، استجابة للمزاج العام الذي يرى في النائب او السناتور سياسي ملطخ. وربما كانت المشكلة اكبر هذه المرة بالنسبة للديمقراطيين اذ ان المرشح الرئاسي كيري ونائبه ادواردز كلاهما من اعضاء مجلس الشيوخ. وربما يشعر الحزب الديمقراطي لاحقا بالندم على اختيار هذا الثنائي لخصوص معركة الرئاسة. واذا كان ذلك لا يكفي فهناك عقبة أخرى بوجه كيري، لا يواجهها خصمه بوش، وتتمثل في ان القاعدة الانتخابية الديمقراطية تتسم عموما بالرخاوة فيما القاعدة الجمهورية معروفة بشدة تماسكها وقوة التفافها حول مرشحها. فحتى اللحظة تقول التقارير إن هناك الاف الديمقراطيين وفي ولايات حاسمة مثل اوهايو لم يحسموا بعد فيما اذا كانوا عازمين على الادلاء باصواتهم - طبعا لصالح كيري - ام لا، وتشير الاستبانات الى ان اعداداً منهم ليست متحمسة لممارسة حقها في عملية الاقتراع. علما بأن في هذه الانتخابات لكل صوت قيمته نظراً لضيق الفارق بين المرشحين. وفي ذلك خسارة مؤكدة للديمقراطي كيري الذي لا يتحمل وضعه الاستغناء عن اي صوت. ولذلك قام فريقه في الايام الاخيرة بارسال جيش من المتطوعين الى بيوت الناخبين - خصوصا الاميركيين السود منهم المحسوبين تقليديا على خندق الديمقراطيين - لحثهم بل لمناشدتهم على التوجه الى صندوق الاقتراع في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني وتخويفهم بان التلكؤ في ذلك معناه اربع سنوات اخرى لبوش.
لكن يبدو ان السيف قد سبق العذل. وغالب الظن، في ضوء السوابق والقواعد التي تحكم العملية الانتخابية الاميركية، انه بات من المتأخر وبالتالي المتعذر تقويم كيري. كان امامه 8 اشهر والكثير من الفرص لتحطيم حملة بوش، لكنه لم يقو. وليس هناك تفسير لتقدم بوش عليه، على الرغم من الارث المثقل بالسلبيات لهذا الاخير، سوى تفضيل الناخب الاميركي لحزبي ولو متهور لكنه واضح على حذر غير حربي تماما ولو متأن. فالمجتمع الاميركي تعسكر بعد 9 نوفمبر. إدارة بوش تعمدت شحنة في هذا الاتجاه، وفي الانتخابات ستحثد مردود التجديد. فالذي لم يدركه كيري ان استحقاق 2004 محكوم بما جرى في 11 سبتمبر وليس بحرب العراق ومصائبها وتسويقاتها المفبركة. والآن على العالم كما على الاميركيين شد الحزام لاربع سنوات اخرى من البضاعة نفسها اذا لم يكن اسوأ
العدد 786 - السبت 30 أكتوبر 2004م الموافق 16 رمضان 1425هـ