مهما استُبعد السؤال لابد في النهاية من طرحه: ماذا بعد قيادة ياسر عرفات؟ هذا السؤال من الممنوعات إلا أن الوقائع الجارية تطرق بقوة لمعرفة الجواب.
عرفات الآن في وضع صعب. والأصعب من حاله الصحية الظروف الدقيقة التي تمر بها القضية الفلسطينية بعد أن وصلت مفاوضات السلام والاتفاقات التي وُقعت إلى حائط مسدود بسبب رفض الجانب الإسرائيلي تنفيذ ما اتفق عليه في أوسلو والقاهرة وواشنطن وشرم الشيخ.
عرفات إذاً هو ضحية، وهذا الجانب يمثل الوجه المظلوم في القضية الفلسطينية التي هي في النهاية قضية مشتركة عربية وإسلامية وإنسانية.
الجانب الآخر من القضية هو الوجه الفلسطيني الذي قاد معاركها طوال فترة امتدت على الأقل أربعة عقود من الزمن. فتاريخ عرفات ليس حياة شخص وانما هو تاريخ قضية تعايشت مع قيادة زمنية نجحت بعد مواجهات سياسية ودموية في نقل الحق من موضوع غير معترف به إلى مسألة شرعية يعترف بقانونيتها الكثير من دول العالم.
عرفات لعب هذا الدور القيادي في نقل المسألة الفلسطينية من جانبها الإنساني (التعاطف الدولي) إلى جانبها السياسي (قضية حق وعدالة). وهذا الدور دخل في محطات صعود وهبوط إلا أنه في النهاية أنتج قيادة مسئولة تواجه تحديات أكبر منها وتحتاج إلى دعم عربي متواصل وتغذية دائمة حتى تستكمل طريقها الصعب وسط انقلاب حصل في العلاقات الدولية والإقليمية.
وعرفات هو الجانب المظلوم في المعادلة وهو الطرف الذي تلقى ثمن العدوان ودفع من أجله الكثير من التشريد والتضحيات. القضية إذاً مستمرة بوجود عرفات أو في غيابه. وهذا لا يعفي من إعادة طرح السؤال: ماذا بعد عرفات؟
لاشك في أن عرفات اكتسب خبرة لا تقدر بثمن بحكم قيادته للقضية خلال فترة امتدت أربعين سنة. فهذه الخبرة المكتسبة بالتجربة من الصعب تعويضها بشخص أو هيئة أو مؤسسة. إلا أن غيابها عن الساحة اليومية لا يعني أن القضية الفلسطينية ستدخل في فترة فراغ. فالساحة السياسية اكتسبت بدورها الخبرة والمواقع القتالية والميدانية ومن الصعب تجاوزها من دون أخذ ثقلها في الميزان.
غياب عرفات لا يعوض، إلا أن بقاء القضية حية في وجدان الأجيال الفلسطينية سيطلق سراح الكثير من الطاقات المكبوتة التي تنتظر فرصتها للعب دورها الحقيقي في ساحة سياسية مفتوحة على سنوات طويلة من الصراع.
القضية الفلسطينية في ظل قيادة عرفات تخطت الكثير من الحواجز وتنقلت في محطات زمنية كان لكل محطة فيها مواصفاتها وصفاتها السياسية. فالثورة بدأت بمجموعة صغيرة ومغامرة في ظروف عربية صعبة وفي ظل شعارات تؤكد أن جيوش الأنظمة هي القادرة على تحرير فلسطين.
امتدت الثورة وتحولت المجموعة الصغيرة المغامرة إلى جيوش من المجموعات المسلحة التي انطلقت في عمليات فدائية بعد هزيمة الأنظمة في حرب يونيو/ حزيران 1967. وبعد الهزيمة انتقلت المجموعة المغامرة من الكهوف والأدغال إلى المدن ومن قوة مطاردة وغير معترف بها إلى هيئة سياسية رسمية تشارك في صنع القرار العربي في جامعة الدول العربية.
ومن الجامعة العربية شقت المجموعة المغامرة طريقها الدولي لتصبح من الهيئات السياسية المعترف بها رسمياً في الأمم المتحدة وفي مختلف عواصم العالم بما فيها عواصم دول القرار . وبفضل كل تلك الجهود والتضحيات تحولت المجموعة المغامرة من كتلة مارقة ومحاصرة إلى قوة سياسية اعترفت بها دول العالم بما فيها تلك الدولة التي تسمى «إسرائيل».
مضى الآن أربعون عاماً واستشهدت المجموعة المغامرة في مواقع مختلفة وبقي منها عرفات كرمز لتلك الحقبة. فهل غيابه يعني نهاية حقبة وبدء مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني أم انه يجدد تلك الحقبة ويعيد صوغها في أدوات وهيئات منظمة تختلف عن تلك الفترة الثورية؟
عرفات هو مزيج بين الثورة والدولة (الحلم الذي لم يتحقق حتى الآن) وغيابه لاشك سيكون بداية فك الارتباط بين ثورة نقلت فلسطين من دائرة صغرى إلى دائرة كبرى وبين سلطة عجزت عن التحول إلى دولة مستقلة وذات سيادة.
غياب عرفات سيطرح أسئلة كثيرة لها صلة بالموروث الثوري وضعف المؤسسات البديلة والفراغ السياسي المؤقت إلا أن فلسطين لن تغيب عن ساحة التاريخ لأن قضيتها عنوان من العناوين الكبرى المتصلة بالحق والعدالة ومستقبل المنطقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 785 - الجمعة 29 أكتوبر 2004م الموافق 15 رمضان 1425هـ