يمثل فوز «حزب العدالة والتنمية» في الانتخابات البرلمانية التركية الاخيرة، مرحلة جديدة، وربما حاسمة من تحديات السياسة التي يواجهها الاسلام التركي منذ صعوده الملحوظ في اواسط التسعينات، وذلك بسبب ما احاط بهذا الفوز من حيثيات وتفاصيل، وأبرزها حصوله على ما نسبته 35 في المئة من اصوات مجموع المشاركين في الانتخابات، ثم سيطرته على 363 مقعدا في البرلمان الذي يبلغ عدد مقاعده 550 مقعدا، وهو أمر يتيح له تشكيل حكومة تتمتع بغالبية مطلقة، لن تستطيع المعارضة الضعيفة داخل المجلس اسقاطها في اية حال من الاحوال.
وعلى رغم اهمية نتائج الانتخابات البرلمانية، فان الأهم التوقف عند معطيات تتصل بحزب العدالة والتنمية والحال السياسية، التي سبقت الانتخابات البرلمانية، او ظهرت خلالها، ويمكن القول، انها قادت الى فوز الحزب الاسلامي. ولعل الاهم في هذه المعطيات، صعود «العدالة والتنمية» في مواجهة الاحزاب التقليدية، التي غرقت ونخبتها بالفساد وعجزت عن مواجهة مشكلات السياسة التركية، وبروز نخبة جديدة أو مجددة، انسحب بعضها من الاحزاب التقليدية، وقرر الالتحاق بحزب العدالة وزعيمه رجب الطيب اردوغان، وهو شخص له تجربة مهمة في الحياة التركية، سواء في مستوى الادارة، اذ تولى سابقا منصب محافظ اسطنبول (أكبر مدن تركيا)، او في مجال العمل السياسي، وهو الذي اشتغل الى جانب نجم الدين اربكان في حزب «الرفاه الاسلامي»، وتتقارب تجربته في الميدان السياسي مع تجربة نائبه في زعامة الحزب عبد الله غول الذي كلفه الرئيس نجدت سيزار رئاسة الحكومة التركية الجديدة.
العلمانية والإسلام
بينت المعطيات التي احاطت بالانتخابات، ومهدت لفوز «العدالة والتنمية»، قدرة قيادة الحزب على تحقيق قدر كبير من الاجماع عليه من خلال ادراك الواقع السياسي التركي ونظامه العلماني، اذ عبر الحزب وقادته عن احترامهم للعلمانية والتزامهم بقواعدها، وفتح ابواب الحزب لدخول شخصيات تمثل الاتجاه العلماني، وجمعها مع شخصيات تمثل الاتجاه الاسلامي في نقاط وسيطة، وهو ما شجع الكثير من الناخبين على التصويت لصالح الحزب. ولايمكن فصل ما تم عن حقيقة ان «العدالة والتنمية»، خرج من تجربة حزب الرفاه وزعيمه اربكان، وما صاحبها من دروس تتعلق بالواقع التركي والاقليمي في ظروفهما وعلاقاتهما الصعبة والمعقدة، وتشكل جوهر تحديات السياسة التركية.
صاغ نائب رئيس الحزب، رئيس الوزراء التركي عبدالله غول، والموصوف بانه «شخصية سياسية ديمقراطية اسلامية معتدلة» جوهر سياسة الحزب وحكومته في المرحلة المقبلة بالقول ان هدفها اثبات «ان دولة اسلامية يمكنها ان تكون دولة عصرية ديمقراطية شفافة»، تحافظ «على حرية المجتمع والمبادئ الاساسية للفرد، كما هو الحال في الدول الديمقراطية، لأن الهدف الاول الآن هو نقل تركيا الى مصاف الدول المعاصرة الحديثة»، وهو امر يتطلب بحسب غول، توافر عاملين «اولهما رفع المعايير الديمقراطية وتوسيع الديمقراطية في تركيا، والثاني ان تصل تركيا الى مستوى الدول الغنية من طريق توزيع عادل للموارد المالية للدولة». وتكمل الرؤية الاقتصادية لبرنامج حكومة غول الرؤية السياسية، التي رسمها غول ايضا، اذ يقوم البرنامج الاقتصادي للحزب حسبما نشرته الصحف التركية على هدف تحقيق نمو حقيقي للاقتصاد المتأزم الى جانب الوفاء بمعايير الانضمام الى عضوية الاتحاد الاوروبي من خلال خطوات بينها اتخاذ تدابير سريعة لتحرير قطاع الطاقة وبيع اصول تابعة للدولة وزيادة الواردات عن طريق اصلاحات ضريبية، وتشجيع المشروعات التجارية الصغيرة ومساعدة الفقراء، واتخاذ التدابير الهادفة الى انعاش الاقتصاد بعد الازمة المالية الحادة والركود اللذين عصفا به.
ان طموحات الاسلام التركي مجسدا بحزب «العدالة والتنمية» وحكومته تبدو كبيرة، وتمثل تحديات حقيقية، فشلت الحكومات التركية المتعاقبة في مواجهتها، خصوصا وأن حكومات العقدين الماضيين، لم تكن تحيط بها الظروف الموضوعية الراهنة، ولا كانت تتمتع بمثل الدعم الذي تحظى به حكومة «العدالة والتنمية»، بل لم يكن يتوافر في صفوفها شخصيات قيادية من طراز اردوغان وغول بما لهما من رؤية تتصل بتركيا وما يحيط بها، وطريقة التعامل معها، وكلها عوامل تضاف الى رصيد الاسلام التركي في مواجهة التحديات القائمة، لتدعم نجاحه، والا فان مصير اردوغان وغول وحزبهما لن يكون بعيدا عن مصير اربكان و«حزب الرفاه» الاسلامي
العدد 78 - الجمعة 22 نوفمبر 2002م الموافق 17 رمضان 1423هـ