كان النبأ مسالما ذلك الذي نشر في كبريات الصحف الألمانية في اليوم الثاني لحلول شهر رمضان المبارك. ففي الصورة التي نشرتها صحيفة «فرانكفورتر الجماينه» يظهر رجل تركي وهو يصلي وفي الصورة المنشورة في اليوم نفسه في صحيفة «زود دويتشه» ظهرت فتاة محجبة وهي تتضرع لربها. أشارت الصحيفتان إلى بدء شهر الصيام عند أبناء الجالية المسلمة وأنه في العالم ما يزيد على مليار مسلم يتقيدون بالصيام في هذا الشهر الكريم. بعد يوم نشرت الصحف رسالة التهنئة التي وجهها الرئيس الألماني هورست كولر إلى أبناء الجالية المسلمة في ألمانيا بهذه المناسبة متمنيا لهم صياما مقبولا. وقد درجت العادة أن يوجه الرئيس الألماني هذه التهنئة إلى مسلمي بلاده عند بدء الشهر الكريم وعند حلول عيدي الفطر والأضحى.
إنه نبأ مسالم لأنه منذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 بات من النادر قراءة تقرير مسالم عن الإسلام والمسلمين. ويلوم الكثير من مسلمي ألمانيا وسائل الإعلام المحلية التي لعبت دورا كبيرا في نشر الأحكام المسبقة ووضع المسلمين مع الأصوليين في زاوية واحدة. لا أحد يعرف كم من الوقت ستستغرق عملية تأهيل الإسلام في ألمانيا نتيجة الانتشار الواسع للحملة المعادية له. لكن هناك مؤشرات تدعو إلى التفاؤل. البداية في برلين، إذ ليس هناك وجود مكثف للمسلمين في ألمانيا مثلما هو موجود في العاصمة الألمانية وبالتحديد في الشطر الغربي. في تقرير لنشرة (قنطرة) التي تمولها وزارة الخارجية الألمانية يستفاد أن هناك شغفا كبيرا لدى فئات مثقفة من الشعب الألماني لمعرفة الكثير عن العالم الإسلامي. ويبدو أن هذه الفئات ضاقت ذرعا بما يروج ويشاع باستمرار عن الأصوليين والإرهاب وعن الجدل الدائم عن الحجاب. وحين عمل مركز الشرق الحديث لأمسية حملت عنوان (الشرق في برلين) فوجئ المنظمون بتوافد عدد من الحضور ضاق بهم المكان.
في محاضرته التي كانت عبارة عن جولة افتراضية في العاصمة الألمانية، قاد أخيم فون أوبن الخبير بشئون إفريقيا الجمهور إلى نقاط تقاطع التاريخ البرليني مع المشرق وأجاب على مجموعة من الأسئلة مثل: لماذا سمي شارع مورن بهذا الاسم؟ لأنه كان مكان إقامة الموسيقيين الذين أوتي بهم من إفريقيا لجيش براندنبورغ في القرن السابع عشر. ويقول فون أوبن: تاريخ المشرق وإفريقيا وآسيا يمر عبر بوابة برلين.
مثال آخر هو جادة كولومبيا، إذ تقع مقبرة للمسلمين، والتي تأسست في نهاية القرن الثامن عشر بمناسبة وفاة سفير الإمبراطورية العثمانية. وكذلك حديقة تربتو عند حوض السمك، إذ أقامت الدولة الألمانية الاستعمارية معرض الشعوب، وكان بوسع الألمان زيارة المكان أيام الأحد ليتفرجوا على سكان أصليين حقيقيين من الكاميرون وجزر البولينيز.
أما في شارع أونتر دن ليندن فقد قام مبنى الأكاديمية البروسية للعلوم وهو اليوم مكتبة الدولة. في هذا المبنى كانت تحاك السياسة الاستعمارية. إلا أن المكان كان أيضا موقعا أكاديميا لانطلاق مثقفين من المناطق المستعمرة. وكذلك في ضاحية فلمرسدورف إذ قام فيها أقدم جامع في برلين والذي أسسته الجالية الهندية وإذ ألقى مفتي القدس الحاج أمين الحسيني خطبة فيه في العام 1943 حين قام بزيارة تاريخية لهتلر إذ يقال أنه كان يمني نفسه بأن يساعد هتلر العرب في الحرب ضد المستعمرين اليهود لكن هتلر أمر بقتل أسرى الحرب العرب الذين كانوا في صفوف الجيش الفرنسي في معتقلات منطقة زكسنهاوزن.
ما هو الهدف من مثل هذه الأمسيات؟ تقول مديرة مركز الشرق الحديث أولريكه فرايتاغ إن المركز يبحث في الوقت الحالي التشابكات بين المناطق المختلفة والعمق التاريخي لظاهرة العولمة. أمام هذه الخلفية يتجلى تاريخ العالم تحت ضوء مختلف وهذا بالتحديد ما سعى الخبير فون أوبن إلى إيضاحه عبر المثال البرليني. برلين كانت دائما مدينة لإنتاج المعرفة عن الشرق. المستشرقون الألمان أول من اكتشف العالم العربي والإسلامي. برلين موقع لإنتاج الكليشيهات ومكان الوصل التركيبي والتبادل. وما يدعو للراحة، والقول هنا لأولريكه فرايتاغ، أن نعرف أن العولمة وتنقل البشر والبضائع والأفكار عبر الحدود كافة هو أمر قائم منذ مئات السنين ومسألة ليست جديدة على البشرية. لكن ما يثير القلق هو أن هذه العولمة غالبا ما كانت مرتبطة بالحرب والسرقة والاضطهاد والشوفينية على ما يبو. وهذا حال دون ظهور العولمة بوجه متحضر.
في تقرير آخر يشار إلى أن طلائع المسلمين وصلوا إلى ألمانيا في العام 1683. إذ عندما حاصر العثمانيون مدينة فيينا للمرة الثانية في العام المذكور، سارع الأمراء الألمان أيضا إلى جبهة القتال. وعندما عادوا أحضروا معهم من وقع في أسرهم من جيش الخصم وهكذا حضر أوائل المسلمين إلى ألمانيا كأسرى حرب من الحروب التركية كما سميت. وتعتبر شواهد بعض القبور في مدينة هانوفر والمؤرخة من العام 1689 وحتى 1691 من الدلالات على ذلك. كما أن بعض القبور من تلك الفترة ما زالت موجودة في برلين إلى يومنا هذا.
لكن الدلالات تشير على أن التنظيم في حياة الجالية الإسلامية في ألمانيا يعود إلى القرن العشرين إذ تم بناء مسجد في فونزدورف بالقرب من برلين في العام 1915 أثناء الحرب العالمية الأولى. وقد شهدت تلك الفترة تحالفا بين ألمانيا والدولة العثمانية التي كان سلطانها يعتبر نفسه خليفة على المسلمين جميعا. وكان الهدف من بناء هذا المسجد استقطاب المسلمين من بين الأسرى في معسكرات الدول الأوروبية المعادية لمساندة العثمانيين وحلفائهم الألمان. وأصبحت برلين في العشرينات مركزا للمسلمين في ألمانيا وإن كانت هذه الفترة لم تشهد تنظيما واسعا لحياة الجالية الإسلامية هناك.
يشير أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة هومبولدت في برلين بيتر هاينه لتلك الفترة ويقول: وجدت في ذلك الوقت جماعات كثيرة من المسلمين وكانت تتكون في الغالب من مجموعات صغيرة العدد. وشهدت فترة العشرينات وجود كثير من المنفيين في ألمانيا مثل القوميين العرب والقوميين من الهنود والإيرانيين والأتراك ذلك أنه على رغم أنهم كانوا يهتمون بالسياسة إلا أنهم كانوا يهتمون أيضا بالتنظيم العقائدي.
وعلى رغم بعض الغموض المسيطر على تلك الفترة، إلا أنها تمخضت عن شكل من أشكال الحياة الإسلامية المتنوعة في برلين خلال العشرينات والثلاثينات. وبهذا تمكن ولأول مرة في ألمانيا، مسلمون من شتى المذاهب ومن 40 دولة مختلفة، من وضع حجر الأساس لجالية مسلمة تعيش في ألمانيا. وفي الستينات وبعد بدء هجرة العمالة الأجنبية إلى ألمانيا بدأ وجود المسلمين يأخذ بعدا جديدا وخصوصاً المسلمين الأتراك الذين يبلغ عددهم اليوم نحو 4,2 ملايين نسمة من اصل 3 ملايين مسلم يقيمون بصورة دائمة في ألمانيا. أصبح المسلمون في ألمانيا اليوم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الألماني ووجودهم منحصر داخل أراضي الشطر الغربي بسبب موجة عداء الأجانب المتفشية خصوصاً في الشطر الشرقي ثم أن ألمانيا الشرقية السابقة لم تقم علاقات متينة مع دول إسلامية وباستثناء بعض الطلبة الذين درسوا في جامعاتها فإن علاقتها مع الإسلام كانت ضعيفة للغاية
العدد 778 - الجمعة 22 أكتوبر 2004م الموافق 08 رمضان 1425هـ