لم أتوافر على تحية أبارك بها المسلمين منكم وغير المسلمين بمناسبة شهر رمضان، سوى أدعية السلام والمحبة، والخلاصة التي تشربت بها من محاضرة الطاهر لبيب في مركز الشيخ إبراهيم والتي كان عنوانها «العرب والحب».
كأننا نولد من جديد، في كل مرة يمر علينا فيها من يذكرنا بالحب، وكيف نحب، ولماذا يجب أن نحب؟ فالطاهر اجتهد وأطلق العصافير من أقفاصنا إلى منافذ ربما تنتشل الإنسان العربي من بين أكوام الحطام الجاثم على صدره، الذي أغرق قلبه في الظلام، فلم يعد يحس بتماسك الأيادي، ولا كيف يحدق النظر في عيون من يحب، ولا يتأمل النخلة، والزهرة أو موجة في البحر، ولا يلتقط حفنة من التراب، ويبتسم في أول النهار، ويعيش لحظات التجلي مع ذاته عندما يلتحم مع الآخر، فالطاهر على يقين من أن الحب هو مقاومة للموت، وعودة للأمل وبعد من أبعاد الوجود، وقوة دافعة وحيوية تدفع البشر للتماهي والاقتراب من الآخر الكائن، الذي ربما يكون متنوعاً أو قد يكون للخالق، أو الآخر من البشر، هو على ثبات من ضرورة توسيع مفهوم الحب بعيداً عن حصره في ثنائية المرأة والرجل. لذلك أدعوكم في شهر الصيام والعبادة إلى النهوض للسفر معه بعيداً إلى قمم الحب ووحيه!
قال عن علماء الاجتماع العرب إنهم لا يهتمون كثيراً بالحب، إنه ليس حتى على أجندة بحوثهم ودراساتهم، وهم لا يعبأون بالجماليات، فالمعرفة العربية السوسيولجية، باتت حزينة تعيسة، مملة، وأشاطره القول في السر والعلانية: إنها بليدة.
يرى الطاهر لبيب أن الحب أساساً لمواجهة الموت، ومقاومة لهدم الحياة، أياً كان هذا الهدم، موتاً، أو هزيمة، تراجعاً أو ارتداداً. فعلاقة الحب بالموت عنده، علاقة أصيلة، هي منذ علاقة المواجهة ما بين أسطورة إله الحب وإله الموت، إذ كما يؤكد، كل الثقافات عبرت عن حبها للكائنات البشرية، والحب لمقاومة التراجع والهزيمة ولتمكين الشخصية الإنسانية من بناء علاقتها بالعالم بتعابيرها وتجلياتها المختلفة. والحب عند العرب له علاقة وطيدة بالمد الحضاري، بيد أنهم اليوم عاجزون عن التعبير عن الحب، وهذا مؤشر للتراجع الحضاري.
ويتطرق إلى مؤشرات علاقة العرب بالحب، تلك التي برزت من خلال التوسع وما أتاحه للعرب من فرص لاكتشاف الآخر وحضوره، فكانوا يعجبون بالأمم الأخرى وثقافاتها، إذ لم يكن عليهم من حرج في ذلك الزمن من الاعتراف بالأمم الأخرى، والآخر المتعدد، أما الآن فان الآخر عند العرب يختصر في «الغرب» فقط.
نشأة المدن العربية بدورها ساهمت كثيراً في هذه العلاقة، وأفرزت «الحب العذري» القائم على فلسفة أن المرأة الجميلة لا تدرك! وأول من اعتنق هذا الحب هي الفئات المهمشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. تلك الفئات التي كانت تعيش في تخوم مكة، وهي ليست من القوى الاجتماعية الكبيرة، وعلى رغم ان ما جاء به الإسلام من تغيرات ساهم في تهميشها، إلاّ إن امتثالية العذريين أساساً ليست بسبب الدين، فقد عبّرت عن نفسها بسبب واقع التهميش باعتناق فلسفة «الحب العذري»، التي تعد أول محاولة لحبس المرأة العربية في جسدها.
واستطرد الطاهر لبيب في حديثه عن المرحلة التي مر بها العرب ما بين القرن الحادي عشر والرابع عشر الميلادي، وأثناء الحروب الصليبية، وكيف تحوّل الشعر العربي إلى النثر، وبدأ اكتشاف العربي للآخر كمحتلٍ، وكيف أخذت البنوغرافية «الممنوع من النشر» طريقها للانتشار، وظهور الصوفية، وكيف تحول الإبداع عند العرب إلى الصورة، وأصبحت الصورة هي التي تقدم نماذج عن الحب، انتفت عنها أساساً لغة الحب العربية، وبالتالي صاروا يستوردون التعبير حتى عن حميمية الحب، فصورة النجم السائدة تعطي فرصة للأوهام، وهي تمثل عملية إسقاط، وعرض البديل هو اغتراب يتمثل في قصور العرب عن التعبير عن ذواتهم وعن الحميمية.
ويؤكد لبيب ان هناك من ينتج الحب وهناك من يستورده، فالاغتراب الفكري يعبر في حقيقته عن التراجعات العربية، إنهم يفرحون بغربتهم وبحب غيرهم، ولم يعد الحب كما كان طرفاً مقابلاً ومقاوماً للموت والقتل.
وانتهى إلى أن التمسك بالحب ونشر العبارة المعبرة عن الحب، هي كما يذكر: مساهمة في بناء المجتمع، فالدفاع عن المجتمع هو في الدفاع عن العبارة المحبة، وأضاف العبارة الأخيرة من رسالته قائلا: «إن المرأة العربية هي آخر معاقل التقاليد، وهي تستطيع أن تعبر عن الحب ولا تعادي الرجل، لماذا كل ذلك؟ لكي تعبرُ بالعبارة إلى الحب والحب إلى العبارة».
وهاأنذا أعبرُ إليكم بحب وسلام أتمناه إلى الجميع مع حلول شهر رمضان، ومنه إلى عبارة الحب والسلام، والصحوة الجديدة للمقاومة العربية من دون إغفال فلسطين والعراق والمهمشين في الوطن والأرض العربية
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 770 - الخميس 14 أكتوبر 2004م الموافق 29 شعبان 1425هـ