العدد 765 - السبت 09 أكتوبر 2004م الموافق 24 شعبان 1425هـ

نحن والسائق الأرعن

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جاء في تقرير التنمية البشرية للعام 2004، أن نحو «مليار انسان يعانون من الاستبعاد الثقافي في العالم»، في حين ان الحديث عن العولمة وهيمنة الثقافة الاحادية يهدد ما تبقى من سكان العالم، وبالتالي سيصبح عدد المستبعدين اكثر من ثلاثة ارباع العالم، لان القوة التي تفرض أساليبها الاقتصادية والسياسية هي في المحصلة فارضة لأساليبها الثقافية. واذا كانت اللغة وحرية الممارسات الدينية من أهم أساليب التعبير عن الهوية، فان لغة السوق هي التي تفرض ذاتها. وللدلالة على ذلك يقول أحد الاصدقاء: «لقد تعلمت اللغة الفرنسية نحو 14 سنة ولم احتج اليها خارج أسوار المدرسة والجامعة، وتعلمت الانجليزية ستة أشهر وبالممارسة بت اتقنها جيداً، وانا احتاجها كل يوم».

الدول التي تستعمر دولاً أخرى تفرض لغاتها في مجالات الحياة كافة وتجعلها اللغة الرسمية ويصبح تعلّمها مسألة مصيرية بالنسبة للناس، حتى المكافحين من أجل الانعتاق من الاستعمار يتعلمون لغة المستعمر، لا بل تتحول الى لغة الافتخار بالتقدم والتطور من قبل الشعوب الخاضعة للاستعمار! وبالتالي يكون الاستبعاد الثقافي مسألة سهلة جداً، ويكون التخلي عن العادات والتقاليد طوعياً وليس قسرياً، ولهذا نجد ان المستعمر يبقى يهيمن على الشعوب والدول التي استعمرها حتى بعد رحيله، لأنه عمل على تطويع الشخصية الوطنية حسب متطلباته هو، وبات ارتباط المستعمَر بمستعمرِه اكثر قوة من ذي قبل.

ويعرف التقرير المذكور الحرية الثقافية بـ «الحرية التي ينعم بها الناس لاختيار هوياتهم، لان يكونوا من يشاءون، والعيش من دون استبعاد من خيارات اخرى ذات اهمية لهم». والسؤال هل حازت الدول العربية حريتها الثقافية بعد نيلها الاستقلال عن الدول التي استعمرتها؟

من السذاجة القول إننا اصبحنا احراراً ثقافياً بعد الاستقلال، ومن السذاجة أكثر أن نسوق الامثلة للتأكيد على ذلك، لان كل مثال نورده في هذا السياق سيقابله ألف دليل ينقضه، وبالتالي نكون كمن يدور في حلقة مفرغة لا يمكننا الخروج منها اذا اخذنا العناد على موقفنا لاننا في ذلك نترك المهم لننشغل بالثانوي من الامور.

اننا في العالم العربي نعاني من استبعاد ثقافي حقيقي، فالمنظومة الاقتصادية التي نعمل من خلالها محكومة بإرادة الخارج صاحب النفوذ الحقيقي في اقتصادنا من خلال إيكال أمرنا المصرفي الى سلسلة المصارف الدولية من دون إيجاد قاعدة مصرفية عربية، ومن خلال عدم السعي الجاد الى ايجاد قاعدة تصنيع عربية حقيقية، ومن خلال عدم إنشاء منظومة تبادل زراعي حقيقية، ومن خلال عدم العمل على جعل اللغة العربية لغة التخاطب اليومي بين العرب ككل. ومن الامثلة على ذلك ذاك الرجل اللبناني الذي اضطر الى التفاهم باللغة الفرنسية مع جاره الجزائري عن بعض القضايا بينهما.

وإذا كان تقرير التنمية الانسانية الذي بين أيدينا يتحدث عن الاستبعاد الثقافي القسري والذي تفرضه الانظمة السياسية والاغلبيات على الاقليات في العالم، فان الاستبعاد الثقافي الطوعي والمسكوت عنه في هذا التقرير هو الاخطر، لان هذا الاستبعاد يعني التخلي طوعاً عن الهوية الوطنية من أجل مسايرة القوة المهيمنة طمعاً في التمتع ببعض ما تمنحه هذه القوة لتابعيها.

يقول التقرير: «ينتمي نحو 300 مليون نسمة الى مجموعات السكان الاصليين في العالم، يتكلمون نحو أربعة آلاف لغة في أكثر من 70 بلداً». هؤلاء الـ 300 مليون نسمة يتعرضون الى عملية استبعاد ثقافي متعددة الاشكال والاساليب، فالاجيال الاخيرة من بعض السكان الاصليين في بعض المجتمعات لايختلفون كثيراً عن غير الاصليين في هذه المجتمعات، لا بل انهم ما عادوا يتكلمون بلغاتهم الاصلية وتحولت هذه اللغات الى لغات متْحَفية، تماماً كالفرعونية والسريانية والآرامية التي أصبحت من اللغات المتحفية.

هؤلاء استبعدوا انفسهم ثقافياً طوعاً لأن أقليتهم لم تعد قادرة على مقاومة القوة الجديدة المهيمنة، فالهنود الحمر في الولايات المتحدة الاميركية أصبحوا، ومنذ قرون خارج الحسابات الثقافية الاميركية، لا بل ان الاميركيين من أصول أفريقية يعانون ما يشبه الانفصام الثقافي، اذ ان رغبتهم في التمتع الكامل بحقوقهم المدنية تصطدم دائماً بأنماط السلوك الموروث منذ عهد العبودية. فالتقرير المذكور يقول ان: «نسبة البطالة بين الاميركيين من أصل أفريقي تبلغ ضعفي مثيلتها بين مواطنيهم البيض»، وهؤلاء في الأصل اضطروا للتخلي عن ثقافتهم لان العبودية فرضت عليهم الذوبان ثقافياً في المجتمعات الجديدة، وفي الوقت نفسه فرضت عليهم العيش في حالٍ من الدونية نسبة لمستعبديهم.

الامر نفسه ينطبق الان على العرب المهاجرين في أوروبا والقارة الاميركية، فهؤلاء يعيشون الان استبعاداً ثقافياً مزدوجاً - إذا جاز لنا التعبير - الاستبعاد الثقافي الاول ناتج عن خروجهم من مجتمعاتهم واحساسهم بالاقلوية في المجتمعات الجديدة، والاستبعاد الثاني الناتج عن طبيعة النظام السياسي الذي يعيشون في ظله، ففي فرنسا مثلاً يقول التقرير: «من أصل 11 عيداً وطنياً ثمة ستة اعياد ذات جذور دينية، كلها مسيحية، وخمسة غير دينية، على رغم أن هناك مسلماً واحداً تقريباً بين كل 13 مواطناً فرنسياً».

اذن المجتمع يفرض طبيعة النظام السياسي، ولأن الغالبية من فئة دينية معينة فستكون الاعياد الوطنية المتبناة هي اعياد الاغلبية، وهذا يعني استبعاداً ثقافياً في نهاية المطاف للاقلية التي تعيش في ظل هذا النظام.

استنادا الى كل ما تقدم لا يمكننا التفاؤل كثيراً في مستقبلنا العربي اذا لم نعمل من اجل اثبات وجودنا الثقافي، والبدء باصلاح جذري لكل منظومتنا بدءًا من اساليبنا الاقتصادية، ووصولاً الى تخاطبنا اليومي في ما بيننا، إذ لا يمكننا التباهي دائماً بقدسية لغتنا العربية واعتبارها العامل الاساسي في استمرارنا الحضاري، فاذا قارنا بين ما تركه الاجداد من مؤلفات وإرث، وبين ما نحن عليه اليوم لوجدنا تبدلاً هائلاً في لغتنا وأساليبنا، وحتى في نظرتنا الى مشكلاتنا.

وباتت قضية الاتكال على الآخر وترك الأمر له مسألة عادية جداً في حياتنا اليومية، ولهذا نحن الآن نشبه إلى حدٍ بعيدٍ أولئك الذين يستقلون حافلة يقودها رجلٌ أرعن ولا يتحدث لغتهم، لذلك يحاولون بشتى الطرق ارضاء نزواته وتعلّم لغته للتفاهم معه من أجل أن يصلوا الى المكان المقصود بسلام، هذا اذا اراد السائق ايصالهم! ولكن الواضح اننا في العالم العربي أضعنا الوجهة التي نقصدها، وتركنا الامر برمته للسائق الارعن الذي ما انفك يتصيد الحفر في الطريق وربما تكون استهوته صرخات الركاب المرتعبين!

رئيس القسم الثقافي بصحيفة «الرأي العام» الكويتية

العدد 765 - السبت 09 أكتوبر 2004م الموافق 24 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً