هذا ليس إلاّ مثالاً لما يحدث في بعض وزارات الدولة، فإدارة الزراعة عادة ما تكون الأنموذج التقليدي للتجارب الإدارية منذ نشوئها إلى اليوم، فقد تنقلت بين عدة وزارات من البلديات إلى التجارة إلى الأشغال إلى الإسكان إلى البلديات، وهكذا لا يكاد يمر تغيير وزاري وإلا كانت المرشح الأول للانتقال إلى وزارة جديدة. ولا أدري هل يحدث ذلك لأنها جمرة من نار لا يستطيع من يمسك بها أن يصمد طويلاً، أم لأنها محبوبة من الجميع والكل يتسابق لضمها؟!
قبيل انتقال إدارتنا إلى وزارة البلديات، كانت تخضع لعملية تنظيم وتضبيط مكثفة من خلال تطبيق نظام (الأيزو) أو ضبط الجودة، حتى خرج علينا المنظرون من كل مكان يتحدثون عن المستقبل الزاهر الذي ستوفره عملية تطبيق نظام ضبط الجودة وكيف انه سيقيم العدل والقسط على أنقاض الظلم والجور، وأكملنا كل المحاضرات التدريبية في هذا المجال تقريباً - لابد ان المكلف كانت كبيرة جداً، وتم تعيين الجدول من أجل الرقابة والمحاسبة إذ كان البرنامج يشمل تدقيقاً ذاتياً ثم تدقيقاً داخلياً ثم تدقيق خارجياً من قبل الشركة التي ستعطينا شهادة «الأيزو». وامتلأت جدران الوزارة بالملصقات، ولا يزال بعضها موجوداً وكأنها ملصقات الإنتخابات - التي توحي بالتغيير الدراماتيكي القادم - والرياح التي هبت من أجواء الديمقراطية التي كانت تباشيرها تعم البلاد. كل ذلك جعل الجميع مستبشراً بالمستقبل الزاهر، ومررنا بمرحلة المخاض تغليباً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، لكي نخرج من هذه الفوضى العارمة، وأن نضحي بشيء من راحتنا وصحتنا لكي نصل إلى ما نصبو إليه.
كان الـ «أيزو» أملنا الوحيد لنضمن بيئة عمل متكاملة حيث التدريب يشمل الجميع ولا يتوقف، والحوافز والترقيات بحسب الأنظمة والأصول المكتوبة، وحيث يكون إنهاء المحسوبيات والواسطة بوضع ضوابط وخرائط عمل لتقديم الخدمات للمواطنين، وللعمل الداخلي والتوظيف، وما إلى ذلك، ما سينقل العمل الذي وصل إلى درجة غاية في التخلف - بشهادة الجميع - إلى عمل منظم.
في إحدى محاضرات الـ «أيزو» في ذلك الوقت طرحنا على المحاضر السؤال الآتي: «ماذا لو تراجعت الوزارة عن تطبيق هذا النظام لأي سبب كان، كأن يكون تغيير وزاري مثلاً؟»، فأجابنا بما معناه: «أن ذلك أمر بعيد وغاية في البعد لأن (الأيزو) شيء يتعلق بالتدريب والمهارة والتقدم الإداري، فكيف يمكن لإنسان تعلم شيئاً أن يدعي عدم تعلمه ويترك تطبيقه؟ وكيف للمتقدم أن يرتضي لنفسه أن يعود للتخلف؟».
يبدو اننا في الزراعة خيبنا أمل هذا المحاضر المحترم، وأثبتنا تخلفنا بجدارة! فما ان تغيرت الوزارة من وزارة الإسكان والزراعة إلى وزارة شئون البلديات والزراعة، حتى تم إلقاء ذلك النظام وكل متعلقاته في الزبالة، وهذا لا يضع تطبيق البرامج الإدارية المتقدمة فقط موضع سؤال بل يضع النظام المؤسساتي كله موضع سؤال، لأن النظام الإداري في المؤسسة يجب ألا يتراجع بسبب تغير أفراد هنا وهناك وإن كان وزيراً.
(مثل هذا الموضوع تم تناوله منذ أول الأيام التي تم تغيير الوزارة فيها في أحد المواقع على الإنترنت، قبل أن يتم غلق الموقع قبل سنة تقريباً، وأحياناً كانت الموضوعات التي تكتب تنتشر في الوزارة عن طريق الطبع وتأخذ تأثيرها، ولكن ليس بالتأثير الذي كانت ستحدثه لو نشرت في الصحافة منذ البداية).
الذي أثار هذا الموضوع في ذهني من جديد هذه الأيام هو عودتنا إلى الأساليب المتخلفة لضبط الموظفين بعد أن كنا على أعتاب ذاك النظام الحديث المتكامل! فقد وصل الأمر في سبيل ضبط الحضور في الصباح - فقط الحضور في الصباح - إلى درجة إدراج أسماء الموظفين المتأخرين لكل صباح في قائمة ترسل يومياً إلى الوكيل، يعني إرهاب يومي يواجه الموظف كي يحافظ على (ضرب الكارت) في الصباح، وفي الوقت الذي أؤيد فيه كل إجراء يساعد على ضبط الحضور وإن كان باستخدام عصا «المطوّع» أتساءل: ما الداعي لاستخدام عصا «المطوّع» في زمن يعج بنظم التربية الحديثة التي كنا قد شرعنا فعلاً في تطبيقها؟
وعسى أن يكون نظام ضبط الجودة لايزال قابلاً لأن يعود للحياة، وإن قلّت شعبيته بين المسئولين! وخصوصاً بعد ما بذل فيه من جهود وأموال.
مهندس في وزارة الزراعة
العدد 765 - السبت 09 أكتوبر 2004م الموافق 24 شعبان 1425هـ