كل شيء في إيران يشير إلى أن كبار صناع القرار فيها منشغلون ليل نهار في مهمة إعادة ترتيب البيت الإيراني من الداخل.
كل شيء في إيران يشير إلى أن كبار القوم من أهل الحل والعقد مصممون على إعادة بناء مطبخ صناعة القرار حَجَراً حَجَراً وترتيبها «صفاً كأنهم بنيان مرصوص». كما هو فن حياكة السجاد الذي يشتهر به الإيرانيون منذ القدم يسعى أهل الحكم جاهدين إلى أن تكون خطواتهم في هذا الاتجاه «سلسة ومتقنة ومحسوبة بدقة لكنها مشدودة بقوة وإحكام صارمين» حتى تظهر اللوحة النهائية كما المرسوم لها بالتمام والكمال في لحظة عرضها على «الزبون» تماماً كما هي الحال في الرسم على السجاد العجمي الشهير.
مع دخول الولاية الثانية والأخيرة للرئيس الإصلاحي محمد خاتمي عامها الأخير بدأت الاستعدادات على قدم وساق لدى جميع الدوائر المعنية بإعادة ترتيب البيت الإيراني من الداخل لإظهار كل ما عندها من قدرات وإمكانات لوضعها في خدمة رسام اللوحة وربان السفينة الأول الذي يفترض أنه المعني أولاً وأخيراً بقضية الحرب والسلام وشأن الدولة العام.
البلديات وفي مقدمتها بلدية العاصمة (طهران) شمّرت عن سواعدها وفي الطليعة عمدة العاصمة الذي أظهر «حزماً» ملفتاً في التعاطي مع جميع القضايا المثيرة للجدل في الشارع الطهراني، كانت المبادرة في إعلان «العزم القومي» لإعادة ترتيب البيت من الداخل.
البرلمان الجديد بأكثريته المحافظة والمتناغم بطبيعته «الأصولية» مع بلدية العاصمة (طهران) كان صاحب الخطوة الثانية في «العزم القومي» المذكور فكان أول ما قام به هو استجواب الوزير الأقوى في حكومة الرئيس محمد خاتمي والإطاحة به في خطوة وصفها أحد رموزه من حواريي «البيت الجديد» بأن الرسالة كانت ضرورية ليعرف أهل الداخل والخارج «بأن لدى إيران برلماناً قوياً وحازماً وله شأن» هذا فيما يستعد لتمرير مشروع قرار مهم يلزم الحكومة بإعادة نشاطها النووي المعلق طوعاً في إطار المفاوضات الشهيرة مع المجموعة الأوروبية، في إشارة واضحة وصارمة إلى العالم الغربي الضاغط على طهران بقوة إلى أن صاحب القرار الإيراني ليس «هشّاً وليناً» بالإمكان كسره بسهولة!
وحتى تتدعم كل تلك المؤشرات بفعل مدٍّو أقوى من كل الخطابات والتصريحات الدبلوماسية حرص أهل الحل والعقد في الأسابيع والأيام الأخيرة على إعلان أن لدى إيران من الصناعات العسكرية في مجال الصواريخ الباليستية وتكنولوجيا الفضاء ما لا يمكن تجاهله بسهولة، وآخرها الصاروخ الاستراتيجي طويل المدى والذي قيل إن القوات الإيرانية جربته في مناوراتها الأخيرة غرب البلاد، وقد يكون هو نفسه الذي أعلنه قبل أيام الرجل القوي في مطبخ صناعة القرار الإيراني أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي قال: «إن مدى صواريخنا بات يبلغ ألفي كيلومتر».
في هذه الأثناء فإن الدبلوماسيين الإيرانيين المكلفين إدارة شئون الملف النووي والمفاوضات الشائكة بهذا الخصوص ما فتئوا يتحدثون عن أن إيران بلغت حد الاكتفاء الذاتي في هذا المجال وانها «باتت عضواً عملياً في النادي النووي الدولي» شاء من شاء وأبى من أبى! أي إن الأمر لم يعد في مرحلة التفاوض بل في مرحلة انتزاع الاعتراف الدولي أو قبول التحدي على علاّته!
هذا الكلام لم يعد يقتصر على رئيس لجنة الشئون الخارجية والأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني، ولا أمين عام مجلس الأمن القومي الأعلى الذي يدير المفاوضات مع المجتمع الدولي بهذا الخصوص بل تعداهما ليشمل رئيس الدبلوماسية الإيرانية الوزير كمال خرازي المعروف باعتدال خطابه وابتعاده عن لهجة التحدي إذ اضطر إلى الإعلان وعبر وسيلة اعلام غربية أنه: «سنرد بقسوة على كل من يفكر في الاعتداء على حقنا في اقتناء التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية»، في إشارةٍ واضحة إلى أن خطاب «العزم القومي» يجب أن يكون موحداً لتظهر اللوحة الإيرانية في «بيتها الجديد» الذي يُعده لها كبار صناع القرار في إيران، كما يجب أن تكون وكما أعد لها أن تظهر في ظل أوضاع التحدي الداخلي والإقليمي والدولي الذي يعتقد أهل الحل والعقد في إيران أنها مقبلة عليه في الأشهر المقبلة.
هكذا أيضاً يجب أن يظهر دور الرئيس الإيراني الجديد المفترض أن يخلف المعتدل محمد خاتمي في انتخابات مايو/ أيار المقبل، بمعنى أن من يريد الترشح ويريد ضمان قبول ترشحه وضمان احتمال فوزه في سباق صناديق الاقتراع لابد أن يحسب فيما يحسب موقعه المناسب في لوحة البيت الإيراني الجديد.
ومثل هذا البيت في رأي من يعمل لإعادة ترتيبه لا يجوز أن تكون جدرانه «شفافة» كالمرايا أو الزجاج في عالم محيط به مليء بتحديات الرماية بكل أنواع الوسائل الهدامة التي تفتت الصخور فكيف ببيت «بلّوري» حلم به ولايزال الرئيس «الشفاف» جداً والمعتدل محمد خاتمي ليس فقط لأبناء وطنه بل ولكل سكان الأوطان الأخرى في العالم في مجمع ما سمّاه بحوار الثقافات والحضارات!
ذلك المجمع الذي يتم إطلاق النار عليه من كل الجهات الكونية الأربع من دون هوادة سواء بحجة الحرب على الارهاب أو بسبب الإرهاب المنظم والمؤدلج الذي بات منتشراً في العالم «لغاية في نفس يعقوب» وغير يعقوب! إذن كل الإشارات المنطلقة من طهران تفيد بأن أصحاب هذه الدار مصممون على انتزاع اعتراف دولي بهم كما هم، أي التعايش مع «توازن الردع الاستراتيجي» الذي تحقق أصلاً على أرض الواقع برأيهم ولا فائدة للمماطلة في هذا المجال.
«توازن ردعي» تقول عنه طهران ان من شأنه كبح جماح «إسرائيل» وتطلعات أميركا غير المبررة وغير المشروعة. كما أن من شأنه أن يعيد إلى المسلمين فضلاً عن العرب مكانتهم اللائقة بهم بين الأمم فيما لو صبروا وصابروا
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 764 - الجمعة 08 أكتوبر 2004م الموافق 23 شعبان 1425هـ