في أحد الاجتماعات الأخيرة للمجلس الوطني العراقي (يبث كاملاً على الهواء مباشرة، على عكس «بثنا المعاد والمقطع») تحدث أحد الأعضاء في مداخلته بكل صراحة عن مساوئ الحكومة العراقية المؤقتة على رغم تجربتها القصيرة، وركز جل حديثه على التسويف في الوعود والتمادي في تنفيذ القرارات واطلاق الآمال الوردية التي تضيع «هباءً منثوراً»، داعياً المسئولين إلى الالتزام بكل ما يعدون به الشعب وإلا - بحسب قوله - رجعنا إلى الوراء كسابق عهدنا. ثم راح العضو يحذر من خطر انعدام ثقة الشعب في مسئوليه الجُدد، موضحاً أن العراق ملّ من انهار الدماء وشبع من طاحونة الموت ودوامة القهر.
ومما قاله العضو في مداخلته: «لو انني لا أخاف من ابن سيبويه أن «يزعل» لأمرت بحذف «سوف» من قاموس اللغة». ثم أخذ يبين أن الناس سئموا من قول «سنعمل، سننجز، سوف نحقق، سوف نصنع» ولم تعد تصدق هذه الوعود والتسويفات. فالناس يريدون حلولاً على أرض الواقع.
المضحك في الأمر أنه لما فرغ العضو من مداخلته قال مدير الاجتماع معقباً: أشكرك على هذه الكلمات و«سوف» ننقل مداخلتك للمسئولين للنظر فيها بعين الاعتبار. فصرخ أحد الحاضرين مازحاً: بعد «سوف»؟ فضجت القاعة بالضحك، وتبسمت أنا كذلك!
ما شجعني على نقل هذا المشهد هو وجه التشابه الكبير بين ما قيل وما حدث في ذلك الاجتماع وبين واقعنا نحن في هذه المملكة الآمنة الصغيرة. والفارق الرئيسي بين الاثنين هو أن المسئولين في الحكومة العراقية (المؤقتة) لم تمض سوى أشهر على تقلدهم مناصبهم، كما أنهم يعيشون أجواء ساخنة تحت «حوافر» الدبابات و«قعقعة» الصواريخ. بينما مسئولونا غالبيتهم أكل الدهر على مناصبهم وشرب، يتنعمون بلا خوف على مناصبهم ولا هم يحزنون. أساليبهم لم تتغير وتصريحاتهم لم تتبدل ووعودهم لم تتحقق!
مراوغة الكبار
«امتصاص الغضب» هذا المصطلح الدراماتيكي الذي يعرفه أرباب السياسة والمواقع الكبيرة جيداً، تكمن فلسفته في احتواء ردّات الفعل التي تقوم بها الجماهير تجاه بعض المشكلات «العويصة» في المجتمع بطرق دبلوماسية. وهو مصطلح ذو أوجه متعددة، إذ يمكن تطبيقه بأساليب إيجابية حكيمة وفاعلة فيؤثر بشكل سليم، وقد يستغل بطرق سلبية لمصالح ذاتية، ولكن إساءة استخدامه وإن كان لها ذلك التأثير الوقتي إلا أنها تفرز انعدام الثقة بين المسئولين والجمهور. وبالتالي تتفاقم المشكلات وتزداد ردات الفعل كلما ازدادت التصريحات وهذا ما أشار إليه سمو ولي العهد في كلمته الأخيرة بورشة إصلاح سوق العمل.
المعالجة السطحية التي يراد بها امتصاص غضب الشارع لا تؤدي إلا إلى المزيد من اتساع الهوّة. وهذا ما يحدث في الواقع البحريني فعلاً. المسح على الرؤوس لا يكفي وأنصاف الحلول لا تنتج حلاً. وإلا لماذا تبقى الأمور على حالها في كثير من المناطق النائية عن أعين السياح (القرى خصوصاً)؟ لماذا تجمد التوجيهات وتعطل الأوامر الإصلاحية التي تخص هذه المناطق؟ ألم تكن هناك مئات الوعود من مسئولين (بشتى درجاتهم) بتحسين الأوضاع داخل القرى؟
تخيلوا... لو أن كل مسئول (رفيع المستوى) نفذ فعلاً بعض وعوده التي صرح بها من خلال الصحافة أو اللقاءات الخاصة والعامة، هل سترى أعيننا هذه المشروعات المعطلة، أو ستبقى إلى الآن مئات البيوت الآيلة إلى السقوط أو شوارع القرى غير المبلطة أو الأسر الفقيرة من دون مأوى؟
«إعمار»... مِنْ أجل مَنْ؟
ثلاثون عاماً والعمارات والفنادق تشيّد إلى عنان السماء، والشوارع الكبيرة والمناطق السياحية تصرف عليها مليارات الدنانير... مشروعات السياحة لم تتوقف يوماً، بل صرنا ننافس على بناء أبراج تناطح السحاب. كل ذلك مِن أجل مَنْ؟ من المستفيد؟ فإن كان الجواب أن هذا لمصلحة الشعب، فالواقع شاهد على خلافه، وإن قلتم إنها لتحسين الاقتصاد فأي اقتصاد؟ الاقتصاد الذي تنعم به فئة قليلة على حساب عشرات الآلاف من المحرومين من أبناء هذا الوطن؟!
لو أن كل من يهمه الأمر قرأ ما يطرح في الصحافة من مئات الأسئلة وحاول الإجابة عنها (قولاً وفعلاً) لما تعطلت شئون البلاد وأرزاق العباد، ولكن يبدو أن «التكرش» المالي و«الترهل» الإداري يحولان دون ذلك. كما يبدو أن الكثير من المسئولين لا يقرأ الصحافة الحرة، حاله حال المخبرين العرب - الذين يصفهم الشاعر أحمد مطر - ربما تجده يحمل تلك الصحيفة مقلوبة وفي وسطها ثقب ينظر ويحدق في الآخرين من خلاله «وإلا لو كان يقرأ الصحيفة كل يوم لاستحى وتخلى عن منصبه أو وظيفته».
لذلك، جميل ما يسعى إليه سمو ولي العهد من إصلاح سوق العمل، وكما قال: «إني اتفهم شعور الكثير منكم بشأن الطريقة التي تتم بها معالجة بعض المشكلات الاقتصادية من قبل بعض الجهات، فغالباً ما اتسمت هذه الطريقة بالعشوائية والتضارب. وكثيراً ما أدى حل مشكلة ما إلى خلق المزيد من المشكلات». هذا التقييم الواقعي الذي صرح به أحد أركان القيادة السياسية في المملكة لابد أن يأخذ مجراه. لابد من وضع اليد على الجرح واجتثاث الجذور الفاسدة، فمن دون ذلك لا يمكن حرث الأرض وزرعها كما لا يمكن لنا أن نترقب حصاداً صالحاً تصلح به سوق العمل والاقتصاد. لابد من لجان عليا لمحاسبة المسئولين عن الهدر المالي وتكدس الحسابات الخاصة بالمصارف في الوقت الذي جففت فيه منابع الثروة لهذه المملكة الكبيرة دخلاً ونفطاً الصغيرة كماً وحجماً. كما «خصخصت» أراضيها فضلاً عن «خلجانها» لجيوب نكذب إن قلنا إنها مجهولة.
لماذا لا تصدق التكهنات وتتحقق الآمال وتقوم الحكومة فعلاً بتأسيس لجنة عليا شعارها «من أين لك هذا»؟ فهذه ستعد سابقة عظيمة في تاريخ البحرين تشرئب لها الاعناق منذ أمد بعيد، إذ لا أحسن من العدالة في تقسيم الثروة حتى وإن كانت خطوة من أضعف الإيمان بعدما أكلت «السمكة» وفر «القط». فمجتمع حضاري حاصل على المركز الأول في التنمية البشرية حري به أن يحسب ألف حساب لمثل هذه التلاعبات الخطيرة التي تنهشه بنهش اقتصاده وخيراته، فيحافظ على هذا المركز المرموق ويبصم عليه الشعب قبل أن تبصمه المنظمات الخارجية
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 763 - الخميس 07 أكتوبر 2004م الموافق 22 شعبان 1425هـ