هل تنطبق صفة المراوغة والارتداد على المرحلة التي يمر بها المشروع الإصلاحي؟ وهل تقبل القوى السياسية المحلية الدعوة الملحة إلى الاقتراب من ذاتها الخاصة باحترام يتناسب وظروف المرحلة الحرجة التي يمر بها الوطن؟ هل هي بحاجة لمن يهز لها أطراف مقاعدها ويذكرها بأن واقع الحال يضعف تكاملها ويهز كينونتها إذا ما استمرت في التعاطي مع ملفات الأزمات بدءًا من الدستور وانتهاء بقانون تنظيم عمل الجمعيات السياسية على المنوال ذاته، إذ لا شيء أسوأ من التساهل، ومن الشعور بالخيبة عندما تتقارع هذه القوى خارج دائرة مصلحة الوطن والمواطن والأمة. فالذي يجرى في نهاية المطاف هو في حكم افرازات المسألة الدستورية بين المعارضة والحكم، تلك التي تنذر بوادرها المتمثلة بـ «مسودة مشروع قانون تنظيم عمل الجمعيات السياسية» بالانفجار، وطبعا، دواعي التنبؤ بالانفجار آت من أسباب عدة منها:
- ما تم التلويح به «من أنه لا مانع من العودة إلى العمل السري والتحرك الواسع على مستوى داخل وخارج الوطن بكل ما توافر من وسائل نضالية».
- تصريح رئيس الدائرة الإعلامية في جمعية الوفاق وتحذيره من جنوح الجمعيات السياسية الحالية إلى حل نفسها إذا ما تم تطبيق مشروع قانون تنظيم عمل الجمعيات السياسية، وعزا ذلك إلى انعدم قدرة الجمعيات على التعاطي مع القانون المقترح الذي قال عنه إنه يلغي التعددية ويفرض قيوداً على حركة الجمعيات ويحد من حركتها مالياً وقدرتها على التعبير. (23/9/2004)، غير أن النفي لذلك التصريح قد جاء على لسان رئيس الجمعية قائلاً: «لم يكن هناك تصريح من الناطق الرسمي باسم «الوفاق»، مثل هذا الخيار وغيره من الخيارات محل دراسة من أجل الوقوف بوجه هذا القانون الذي يعتبر تراجعا». (25/9/2004).
- تأكيد رئيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي في ندوة الأربعاء 22 سبتمبر/ أيلول الماضي: «... إن القانون سيعطل العمل السياسي ويؤمم الأحزاب السياسية، وآمل أن لا يمرره النواب».
- قول النائب فريد غازي وإصراره قائلاً: «... على تسمية الأشياء بمسمياتها، فإذا أردنا تنظيم العمل السياسي فلابد أن يكون لدينا نظام للأحزاب، وأنا بصفتي رجل قانون لا أستطيع عمل قانون ينظم العمل السياسي من دعم للمرشحين وانتخابات بغير قانون للأحزاب... وما يجب أن يكون واضحاً هو أنه لا يوجد شيء اسمه جمعيات سياسية، ويجب ألا نقتنع بذلك، ولو اقتنعنا فلن نحصل بعدها على قانون للأحزاب...».
- ما أدلى به النائب علي مطر بصراحة ووضوح «... أنا لست عضوا في أية جمعية سياسية ولا أؤيد هذه التحزبات والتجمعات التي سرعان ما ستتحول إلى أحزاب متصارعة ومتنافرة همها الجمعية والحزب من دون النظر إلى المصلحة العامة... ولهذا السبب إذا طرح قانون الأحزاب فسأتصدى له بكل قوة»، على ماذا يدلل هذا التصريح؟ ربما يدل على تقارب بين هذا التيار والموقف الرسمي، وإلى أنه سيحارب بشراسة تزيد قليلاً أو كثيراً عن أصحاب الرغبة في تحجيم دور الأحزاب السياسية، هذا إذا علمنا أن موقف تيار المنبر الإسلامي لم يتضح بعد، وغالبا ما يتجنب زعل الحكم.
- لا ريب إن مسودة المشروع تخنق القوى السياسية، وتبتر تطلعاتها في حرية الحركة والتعبير، بل أنها تصادر مؤسساتها برمتها وترميها في حظيرة السلطة، وهذه المسودة تفصح بما لا يدع مجالاً للشك عن انكشاف العلاقة المتأزمة ما بين المعارضة والحكم. الدلالات على ذلك واضحة في تعبير الصحافي عقيل سوار حينما قال: «إن قانون الجمعيات بنكهته الزاجرة الناهرة، يعرض على الضمير البحريني كل الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالعلاقة بين الناس والسلطة، بما تشتمل عليه هذه الأسئلة، من مناظرات مهمة مصيرية عن العدالة الاجتماعية التي ما عاد اختلالها إشاعة مغرضة، والفساد الذي ما عاد حصوله وتجذره في مؤسساتنا إفتراء وبلبلة للرأي العام، كما كان يقال إبان تسيد الهاجس الأمني الحاضن لهذه السوءات، والمدان بالإجماع ضمنيا فيما نسميه إدانة قانون أمن الدولة».
أسئلة شيطانية
تداعت الحكاية إلى ما عليه الآن، بسبب نسيان وتناسي مزاج الشعب البحريني وحساسيته المفرطة حيال الحريات العامة وحرية التعبير وممارسة العمل السياسي، وخصوصاً بعد التضحيات التي قدمها وقصور الاستحقاق المعروض، أيضاً بعد تجربة العمل السياسي البحريني المنظم منذ خمسينات القرن الماضي، رجل القانون الدولي ووزير الشئون القانونية ومستشار الدولة السابق حسين البحارنة، يذكر باعتراف الحكومة بأول حزب سياسي وهو هيئة الاتحاد الوطني في العام 1954، جاء حديثه في سياق وصف مشروع القانون بأنه «قانون سيئ» وحث خطى قوى المجتمع المدني كافة للوقوف ضد إقراره، قائلاً: «من المؤسف أن يكون القانون بما يتضمنه من عقوبات وتحديد للحريات مقدماً من قبل مجلس النواب...» (22/9/2004)، وثمة من يرى ان موقف الحكم مع هذا القانون سيشكل قطيعة بينه وبين الشعب ثانية.
إلى ذلك، الأسئلة الشيطانية تحوم حول مواد وبنود مشروع قانون تنظيم عمل الجمعيات السياسية المقترحة من قبل كتلة المستقلين البرلمانية تلك التي يسعى الحكم لتمريره وإقراره عبر التصويت عليه من قبل نواب البرلمان. إن الإجابات على الأسئلة تكمن خلف سطور المسودة التي حسبما أعتقد أن أهم المآخذ عليها تبرز في الآتي:
- تسمية التنظيم السياسي «بالجمعية» وحذف تعبير «الحزب»، وبالتالي إفراغ الحزب من مضمونه وجوهر آلية نشاطه كتنظيم سياسي. البحارنة يضيف رأيه في هذا الشأن قائلا: «في رأيي لا يوجد شيء اسمه جمعيات سياسية والشاهد على ذلك المادة (هـ) من الفقرة الأولى من الدستور، وهي تنصّ على أن للمواطنين حقّ المشاركة في الشئون العامة والتمتع بالحقوق السياسية...» وخصوصاً أنه يؤكد أن الأحزاب جزء لا يتجزأ من العملية الديمقراطية. إضافة لذلك، فهو يعارض المادة الدستورية رقم (27) التي تنص على حرية تكوين الجمعيات (بما فيها الجمعيات السياسية)، والمادة (31) بعدم جواز النيل من التنظيم أو جوهر الحق أو الحرية، بالذات حينما حدّد مضمون وهوية الجمعية السياسية، «... انه انتقاص للحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والتي لم توقّع عليها المملكة إلى الآن كالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية...» (ورقة عبدالنبي العكري لورشة عمل حول مشروع القانون 22)، هذا في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن دولة القانون والديمقراطية والنموذج الذي يحتذى به.
- يفرض القانون الاعتراف بدستور 2002 والالتزام به، في الوقت الذي يتنامى فيه الجدل حول إجراء تعديلات عليه، والالتزام بآلية التعديل المتوافق عليها سابقاً، إذ ليس بسرٍ القول إن غالبية البنود المعدلة ليست لها الصفة التعاقدية، لا بل تم تغيير بعضها بصورة لا صلة لها بما تم التوافق عليه حتى في الميثاق.
- التشديد وفرض الوصاية على شخصية الجمعية السياسية الاعتبارية كان فاقعاً في تدخل السلطة التنفيذية في شئون التنظيمات السياسية ومراقبة وتحديد سياسيات وتوجهات وعلاقات الجمعيات السياسية الخارجية، فالمادة (20) تفصح عن ذلك بوضوح في إجراءات إخطار وزير العدل، ومن البديهي أن تشكل هذه المادة وصاية، عندما تؤكد أحقية الوزير بوضع القواعد المنظمة لاتصال الجمعية بأي حزب أو تنظيم سياسي أجنبي، ولا يجوز لأية جمعية التعاون أو التحالف مع أي من هذه الأحزاب أو التنظيمات إلاّ وفقاً لهذه القواعد. بالذمة ماذا يعني هذا؟ يعني ببساطة شديدة ألا تكون هناك علاقات نضالية مع الخارج، فأي دعم لحركة مناهضة سلبيات العولمة على سبيل المثال سيتم عقاب الجمعية السياسية عليها، وأي مؤتمر قومي عربي سيحجر على التنظيم السياسي المشاركة فيه، وأية عضوية لأي مواطن بحريني في الحركات العربية والعالمية من أجل التحرر والديمقراطية والنهضة سيكون نصيب صاحبها المساءلة القانونية، وهذا يتعارض طبعا مع فرضية أن الحزب يشكل أحد مقومات المجتمع المدني، الذي يفترض به أن يمارس تداولاً حقيقياً للسلطة، ويعمل على حد موازٍ للسلطة التنفيذية، وبناء على هذه العلاقة الندية هل يجوز دعوة السلطة التنفيذية إلى إلغاء علاقاتها الخارجية؟
إن هذه المادة ستحجب أي منفذ للخروج بواقع الأمة العربية من كبوتها، وتمنع أي تضامن عربي وعالمي مع الحركة الدستورية البحرينية، كما ستحجر على المواطن حق التضامن العربي ورفض العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني أو الأميركي على العراق والتدخل في سيادة الدول، وأي تضامن مع الشعوب الخليجية الأخرى في نضالاتها الإصلاحية سيكون ممنوعاً ويدخل في حكم التدخل في الشئون الداخلية.
- في المادة (24) ما يجيز رفع دعوة مستعجلة لإيقاف نشاط الجمعية السياسية ضمن إجراءات تنتقص من إرادتها الحرة، في الوقت الذي يفترض أن يناط أمر التجميد إلى المحكمة الدستورية بناء على دعوة المتضرر وبإجراءات اعتيادية، هذا ناهيك عن غموض النص في تحديد بعض المخالفات من مثل «معادياً للنظام الاجتماعي»، إذ تحال إلى قانون العقوبات ومنه إلى السجن المؤبد، وحل التنظيم وكأننا سنعود أدراجنا صوب قانون أمن الدولة.
- اعتبر الهبات والتبرعات والاشتراكات وعوائد الاستثمار التي تعود للجمعية السياسية في حكم المال العام في حال المخالفات التي سيطبق عليها العقوبات، أما القائمون على شئونها والعاملون بها، فهم في حكم المواطنين العموميين في تطبيق أحكام القانون المشار إليه، كل هذا سيؤدي لأن تكون أموال الجمعيات السياسية تحت وصاية السلطة التنفيذية، كما حددت سقوف زمنية وحدود قصوى لا يتجاوز قبول التبرع فيها بـ (10,000 د.ب)، ومنعت منعاً باتاً قبول أي تبرع عيني أو ميزة أو منفعة من أجنبي أو من جهة أجنبية أو منظمة دولية أو شخص بلا جنسية، أو أي شخص اعتباري حتى لو كان بحريني الجنسية.
الحال إننا لن نضيف على ما قيل سوى، أن الحبال مشدودة، والمرحلة الراهنة التي يمر بها الوطن خطيرة، والضغوط التي يمارسها العدو الأميركي على شعوبنا تتنامى وتتزايد كل يوم، ونحن أمام تحديات تستدعي بل تستوجب وقفة مع الضمير واستحضاره في التعاطي مع هذا القانون سواءً على مستوى الوطن أو الأمة العربية، قوى العمل الوطني والمعارضة السياسية بكل تلاوينها بحاجة لاستنهاض شجاعتها وإثبات استقلالية قرارها تجاه هذا القانون، وثباتها وصلابة عودها وتغليب مصلحة الوطن على أي اعتبار آخر. وعليه يجب على القوى الوطنية أن تعيد صوغ تحالفاتها من الآن فصاعداً، وتحدق النظر ثانية في أدواتها التحليلية للواقع السياسي محلياً وإقليماً وعالمياً، وعدم الإنجرار واللهث وراء تسويق المشروعات الآنية خارج الإرادة الشعبية.
وبصراحة وللأمانة التاريخية نهمس إلى من يفتقر للرغبة في مواجهة هذا الواقع، وبهتت همته في الإصرار والمطالبة بالحقوق، نهمس له بضرورة تحكيم الضمير ومغادرة ساحة النضال والمساهمة ولو بجزء يسير في تحجيم حال التدمير والتشطير الذي يمارس ضد الوطن والمواطن
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 762 - الأربعاء 06 أكتوبر 2004م الموافق 21 شعبان 1425هـ