«مدرس وافد يتعرض للضرب المبرح على يد طالب»... كان ذلك عنوان خبر قرأته بالأمس في إحدى الصحف المحلية، إذ أكد الخبر أن المدرس أصيب بنزيف في الوجه وكسور في القفص الصدري إثر لكمات وجهت إليه من أحد الطلبة في المدرسة...
ولن نقف عند الأسباب والدوافع التي جعلت طالبا يقدم على لكم مدرسه بهذه الصورة الشنيعة، ويتحول في لحظة من طالب - من المفترض فيه المسالمة والدعة وخصوصا أمام مدرسه الذي من المفترض به أيضا أن يكون ذا ثقل ووزن يخشى من مسه بسوء كل طالب علم - إلى جيمس بوند زمانه فيضرب بعرض الحائط وفي ثوان معدودة بكل المبادئ التي تعلمناها منذ الصغر وزرعت في عقولنا وضمائرنا تجاه من له الفضل في تعليمنا أبجديات العلم وأصول القراءة والكتابة.
إنما ما يثير الدهشة والاستغراب فعلا وما يجعلنا نثير نقطة قد يجدها البعض بعيدة عن لب القضية المنشورة هي مقارنة بسيطة بين ما كنا عليه وما أصبح أولاد اليوم فيه... لحظتها فقط سنشعر بالبون الشاسع بيننا وبينهم، وكأننا ولدنا في زمن غير الزمن ومن آباء وأمهات مختلفين تماما عن آباء وأمهات اليوم.
وإن كانت هذه طريقة الأولاد وسلاحهم في الدفاع عن أنفسهم وعن حقوقهم كما يرونها هم، فإن للبنات طريقة أخرى وسلاحاً آخر لا يخلو من «ملاسنة» و«تخصر» وإغراب بالوجه وعدم اكتراث بأية كلمة توجه إليهن من مدرساتهن وإن كان فيها الصلاح والعون لهن!
عقول غريبة يحملها عيال هذا الزمن وعضلات سواء يدوية أو لسانية جعلت مدرسي ومدرسات هذا الزمن أيضا يحتلون موقع الفأر الخائف من التهام القطط (الطلبة والطالبات)... ومن أبسط طرائف انقلاب الموازين هذا أن المدرسين أخذوا يمتنعون عن انتقاد سلوكيات طلابهم خوفا من تلقي صفعة أو لكمة تسلبهم أسنانهم أو حتى عقولهم... ومسكين ذلك المدرس (الأقشر) الذي قرر الذهاب إلى المدرسة بسيارته الجديدة فتركها بحال ورجع إليها فوجدها في حال آخر حتى أنه لم يستطع التعرف إليها، ومن هول الصدمة كادت روحه أن تفارق جسده!
نسأل عن منبع هذه العدوانية غير المعهودة في أبنائنا؟ ما الذي جعلهم في تمرد دائم على كل ما حولهم؟ ما الذي جعلهم يفقدون الاحترام لمدرسيهم، هذا إن لم يكن لآبائهم وأمهاتهم؟ ما الذي جعلنا نحن نفقد السيطرة عليهم وبالتالي نفقد تقديرهم واحترامهم لنا؟
هل يعقل أن نكون نحن السبب في ذلك؟ هل فكر هؤلاء المدرسون في أنهم من الممكن أن يكونوا العامل الرئيسي في كسب عدوانية هؤلاء الطلبة إليهم؟... أعلم بأن اللوم لا يقع كله على المدرسين، فللبيئة والتربية ولوسائل الإعلام - التي باتت تخزينا يوما بعد يوم وبشتى الطرق - دور لا يمكن الاستهانة به... ولكني أريد أن أوجه إلى جانب بات مفقودا بين المدرس وتلميذه من الممكن جدا أن يسهم في التخفيف من وطأة هذه المشكلة... ألا وهو العلاقة بين المدرس وتلميذه.
التلميذ يقضي أكثر من نصف يومه في المدرسة وقد يقضي مع أحد مدرسيه ساعات تفوق الوقت الذي يقضيه مع أهله وذويه... هذا الوقت إذا تمكنا من استثماره في خلق علاقة طيبة بين المدرس وتلاميذه لا شك أننا سنسهم إلى حد بعيد في القضاء على هذه الفجوة بينهما والتي غالبا ما تولد ذلك العنف والرغبة في الانتقام...
ولنتساءل: كم مدرس حاول التقرب إلى تلاميذه وتفهم مشكلاتهم ليست المدرسية فحسب بل وحتى الشخصية؟ كم مدرس تمكن من تفهم زلات تلاميذه فقننها وسامحهم عليها؟ كم مدرس دخل على تلاميذه صباحا وهو مشرق الوجه مداعبا إياهم قبل بدء الحصة؟ كم مدرس قرر أن يحبذ تلاميذه في مادته فيخفف من حملها عليهم باستخدام وسائل تعليمية أخرى غير الكتاب المدرسي وبطرح المادة بأسلوب يدفع التلاميذ إلى المشاركة والتفاعل؟
أذكر أننا - وهذا طبع في الغالبية - لا نذاكر ولا نهتم بالمادة إلا إذا كان المدرس محببا لقلوبنا، أما الآخر «الأقشر» فلا يظل وجع رأس ولا ألم بطن ولا الاقتراب من حافة الموت إلا وتداهمنا في حصته كي ننعم بالفرار منها إلى نعيم غفوة على سرير المشرف الاجتماعي ولتذهب الحصة بمدرسها وربما امتحانها في ستين داهية!
من هنا ألمس أهمية العلاقة الطيبة بين المدرس وتلاميذه... علاقة الأخ بأخيه الأكبر... العلاقة التي تفر من توجيهات «الناصح الأكبر» لتنتقل إلى الكلمة الطيبة التي تكسب القلوب وبالتالي العقول... أعتقد أننا لو التفتنا إلى ذلك وبدأ كل مدرس بتطبيق هذه النظرية لجنبنا أنفسنا الكثير من اللكم والضرب ومواجهة الموت من حيث لا ندري ولنعمنا بجمال سياراتنا لفترة أطول من دون خدش ولا تكسير ولا «تفشيش» إطارات.
وكلنا أمل في القائمين على وزارة التربية والتعليم وإدارة المناهج وكل ذي شأن بالتخفيف من نصاب المعلمين من الحصص كي يتمكنوا ولو للحظة من التنبه إلى أن من يتلقون دروسهم عجينة طيعة في أيديهم بقليل من «النفس» الطيب سيعدون أطيب كعكة، ماذا وإلا فلن نأكل إلا مر الحنظل مجبرين
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 755 - الأربعاء 29 سبتمبر 2004م الموافق 14 شعبان 1425هـ