مع ظهور القصيدة الجديدة في منتصف القرن العشرين، تعرض تلقي الشعر بطرائقه التقليدية إلى انكسارات فادحة انعكست على طبيعة تعاطي النخب مع هذه القصيدة، وأسّست لتلقٍّ مغاير ترافق مع حدوث تطورات متسارعة في بنية النص ولغته وشكلانيته، الأمر الذي أحدث إرباكاً عند عموم المتلقين؛ إذ إن هذه التطورات الجوهرية قد مسّت الذائقة التقليدية التاريخية، وعملت بقوة من أجل خلخلة مفاهيم وأسس هذا التلقي من داخله، سواء عبر الكتابة الشعرية الإبداعية أو عبر التنظير المصاحب لها. ووصل الأمر إلى ذروته القصوى مع قصيدة النثر التي تم التنظير لها، فيما يخص عملية التلقي على وجه الخصوص في عقدي السبعينات والثمانينات، عبر فهم خاص يتعمد الإزاحة عن المستقر في طرائق التلقي. ولكنْ، وهذه نقطة مهمة جداً - مع وجود بعض الاستثناءات -، ليس عبر استثمار وتطوير ما هو موجود، وإنما عبر نسفه وإلغائه بصورة تكاد تكون شبه كلية؛ ما أدّى إلى حدوث فجوة واسعة بين أطراف خطاطة التواصل الشعري.
لعل من أهم وأخطر ما طرح ضمن هذه السياقات، كان إلغاء دور «السّماع» وتعظيم دور «القراءة البصرية»، باعتبارهما يمثلان أهم مجالات التلقي، وتتمظهر فيهما إشكالاته الكبرى. الهجمة الضارية التي تعرض لها «السماع» وصلت إلى حدٍّ أصبح فيه الكلام عنه أشبه بالمحرمات التي من اقترب منها يمكن أن يواجه بتهمة التخلف والرجعية وعدم الانسجام مع الجديد والحداثي. وهكذا وجد لدينا طرفان تم التعامل معهما على أنهما ضدان متقابلان، ولم يتم استثمارهما باعتبارهما مُمْكِنَيْنِ من ممكنات القصيدة، لهما أن يكرسا وجودَها عند المتلقي العام والخاص على حد سواء. وأمثلة هذا التعاطي كثيرة جداً، لدرجة أنها سيطرت على معظم المشهد الشعري العربي.
كان إقصاء «السّماع» عن مرتبة كونه شرطاً جوهرياً من شروط التلقي، وإلقائه في الخلف حال التعامل مع الشعر تنظيراً وإبداعاً، يمثل بحد ذاته خسارة جسيمة أدّت، فيما اتصل بها من سياقات، إلى فتح الباب واسعاً لكثير من النتاجات الشعرية الهابطة، والتي حال اصطدامِها بالجمهور العام والخاص على حد سواء، تلجأ إلى تبرير الضعف المفضوح في بنيتها ولغتها ومعرفتها بأسرار الكتابة الشعرية وتاريخها مع فقدان فادح للأسس المتينة للكتابة الشعرية، بأن تغامر بالهروب إلى الأمام، عبر استثمار موضوعة «القراءة البصرية/ التلقي البصري»، توهّما بإمكان تغطية ما فقد في الجانب الآخر. هذا، طبعاً، جانب من جوانب هذا الموضوع الشائك، والأمر لا ينطبق على النتاجات المتميزة التي كانت واعية وبدقة كبيرة لهذه الإشكالات وخطرها على القصيدة الجديدة.
الأمر الآخر الذي ساعد، بصورة غير مقصودة، على إعطاء زخم لهذا التوجه، كان هو التسيد الكبير للصحافة والمجلات والكتب المطبوعة، وهو ما صاحب تطور المجتمع العربي في هذه الفترة؛ إذ لأول مرة في تاريخنا ينتشر الشعر عبر فضاء الصفحة المطبوعة بهذه الصورة الكبيرة. وخلق ذلك - عبر التعاطي مع النتاج المطبوع في هذا الفضاء الجديد - صورة نمطية جديدة لمثقف جديد، ومتلقياً متجاوزاً لأنماط التلقي التقليدية التاريخية. كانت هذه الصفحة التي فتحت فضاءاتها أمام المبدع والناقد على حد سواء، تغري بجعلها سيدة المقامات، متجاوزةً إلى لذة العين عبر شكلانية بصرية لا حدود للمغامرة في فضاءاتها التي يتوالد بعضها من بعض، ويقود بعضها إلى بعض، وهذا ما قاد إلى التأسيس لإيقاعية بصرية مدهشة، حقّقت إنجازات شعرية كبيرة.
ومهما يكن، فإن الخسارة الفادحة على مستوى «السماع» في التلقي، قد تم تعويضها عبر هذا الجانب، أي بما تحقق من إنجاز على مستوى الإيقاعية البصرية التي اتصلت اتصالاً عضويّاً بطبقات النص المتعددة. وهذا الأمر طبيعي جداً، ضمن سياقات التطور التي شهدها المجتمع العربي في لحظته التاريخية، قبل عصر الفضائيات والانترنت التي كانت مدعاة للتوقف والتأمل في إنجازات وخسارات أربعين عاماً من المغامرة الشعرية العربية. وهذا ما سنتعرض له في الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى
العدد 755 - الأربعاء 29 سبتمبر 2004م الموافق 14 شعبان 1425هـ