مدين أنا باعتذار إلى القراء الذين شمّوا رائحة اليأس وضياع الأمل في الحاضر والمستقبل، من خلال بعض كتاباتي، وخصوصا المقالات الأخيرة، الأمر الذي ضاعف الرسائل والاتصالات، منها ما يحتج ويرفض، ومنها ما يشجع ويدفع.
ولا أستطيع ان أنكر يأسا يحوم حولي ويلوح أمامي، فأوضاعنا تتراجع بسرعة شديدة، في الداخل والخارج، والتدهور يجري من أعلى إلى أسفل ومن أسفل الى أعلى، وكلما طرقت باباً للأمل سدّته حوائط التيئيس بدرجة جعلتني أفكر في التوقف والاعتزال، تحت طرقات السؤال الحائر، ما جدوى الكتابة، ما أثر الرأي، ما فائدة حتى الصراخ، وما رجع الصدى!
غير ان صديقا عزيزا واستاذاً مجرباً قال وهو يحاورني، انه يكفي في هذا الزمان ان يكون الكاتب الحّر جرس انذار وكفى... وهذا فعلا صحيح، فالصحافة الحرة حاملة الرأي الحر والفكر المستنير، يجب ان تقوم بدور أجهزة الإنذار، تدق الأجراس باستمرار كلما لاح في الأفق خطر قادم من بعيد، فما بالكم والأخطار المحدقة صارت تحتضننا وصرنا من فرط التعود نحتضنها بلا أحساس بما تحمله لنا من اشارات النهايات التعيسة.
وللأسف الشديد فإن صحافتنا أو معظمها لا تقوم بمهمة دق أجراس الانذار، الا فيما يتعلق بالهوامش، فما ان يقع خطأ عند الهامش أو من شخص في الهامش، حتى تنهال عليه تكشفه وتفضحه وتحرسه، وهذا طبعا مطلوب، لكن حين يقع الخطأ في المركز، أو يرتكب مسئول من الاصول خطيئة، فإن البصر كفيف والكلمة خرساء، والحقائق مقلوبة والأبواق زاعقة، أليس هذا هو الفرق في التعامل بين من يسرق رغيفا لطفله الجائع، وبين من ينهب الملايين ليزداد ثراء وسحتاً، الأول يطبق عليه القانون فيدخل السجن، والثاني يلتوي من أجله القانون، فينعم بما نهبه ويثرى!
قد يكون ذلك مدخلا يستدعي ضرورة الحديث الصريح عن مهمة الصحافة وطبيعة دورها في بلادنا هذه الأيام، مثلما يستدعي الحديث عن ضرورات الاصلاح الشامل والتغيير الضروري وطبيعته وهدفه، كلاهما مترابط لا فكاك بينهما ولا انفصام، وما لم يعدل المجتمع، الدولة، والحكومة من فهم دور الصحافة وضرورة الاصلاح وحتمية التغيير، فإن التدهور سيزيد من سرعته مندفعا من أعلى علّيين الى أسفل سافلين!
دعونا نستأنف فندّق أجراس الانذار وأجهزة التنبيه والتحذير، لعل وعسى ان يصحو نائم ويستيقظ هائم فيعود الى واقعه ورشده.
أولا: حين ننظر في دواخلنا بتمعن، نشهد الآن تدافعا ملحوظا من «حديث الصحف» عن الاصلاح ومشروعاته ومؤتمراته وندواته التي تكاثرت تكاثر الفطريات، لكن تظل النتائج والعبرة بالخواتيم ضئيلة المعنى هشة المبنى من ناحية، ويظل الحديث عنها قاصرا في الغالب الأعم على التصريحات الصحافية والدعايات الاعلامية من ناحية أخرى... لماذا؟
لأن الاصلاح يعني بالضرورة التغيير، تغيير الأفكار والمفاهيم، الرؤى والسياسات، الأشخاص والخطط، اذا كان حديث الاصلاح جادا ونابعاً من اقتناع حقيقي بأهميته وضروراته ودوافعه، غير ان معظم ما نقرأه على صفحات الصحف ونتابعه عبر شاشات التلفزيون «غير الرقص المبتذل والصدور والسيقان العارية والأفكار السطحية» ينم عن شيئين محددين، أولهما ان الذين يتحدثون في الغالب الأعم - عن الاصلاح لا يؤمنون بالتغيير الحقيقي، وثانيهما أنهم يتحدثون عن الاصلاح بمنطق تفويت الأزمة التي أثارها الضغط الأجنبي وخصوصا الأميركي على حكومات المنطقة، مطالبا بالاصلاح الديمقراطي والتغيير الضروري، وفي الحالتين تتحول الصحافة ووسائل الاعلام «الحكومة بالأيدي المباشرة أو بالريموت كونترول» الى مدفعية صاروخية لاطلاق التصريحات والتنظيرات المخادعة.
وبعيدا عن الضغوط الأجنبية المطالبة بالاصلاح في بلادنا وأهدافها الذاتية، وعلى رغم المناورات الداخلية الدامية لتسويف خطوات الاصلاح والتلاعب بها اعلاميا، فإن أجراس الانذار يجب هنا أن تدق بقوة وعنف، محذرة من ان الخطر الداهم ينبع اساسا من تردي الأوضاع الداخلية في أوطاننا، حيث تراكم مخزون الفقر والبطالة والغلاء والفساد مع الاستبداد، هو المفجر الحقيقي، إما مفجر لأزمات وصراعات طاحنة لا حدود لمخاطرها، وإما مفجر لخطوات حاسمة نحو التغيير والاصلاح استباقا للأزمات.
وسترتكب حكوماتنا أفدح الأخطاء وأعظم الخطايا ان ظلت على أوضاعها الراهنة، تناور وتداور باسم الاصلاح تفاديا للضغوط الأجنبية فتكسب فترة سماح أخرى وتتجاهل تراكم مخزون الغضب الشعبي الذي يزداد التهابا يوما بعد يوم، غير راض عن الاصلاحات الجزئية الشكلية، التي تتحرك في الهوامش وتتجمد في الاصول التي تفخر برصف شارع أو شق طريق، ولا تعالج بجذرية ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بأرقام مخيفة، رصدتها تقارير محلية ودولية معتبرة، والتي تدعي اطلاق الحريات أمام الميكروفونات وتنتهك كل الحريات من وراء الأضواء.
ثانيا: حين نتلفت حولنا بتبصر نجد ان الاخطار الخارجية لم تعد تحيط بنا كما كانت من قبل بل هي اصبحت داخل بيوتنا، بعد ان اقتحمت جيوش الخطر الأجنبي غرف نومنا علناً وربما في معظم الاحيان برخصة من حكوماتنا الرشيدة، باسم التحالف الاستراتيجي والتعاون الدولي والمعاهدات الثنائية.
وما يجري في دارفور السودانية هو إعادة صوغ لما جرى في العراق، ومن قبله ما جرى في فلسطين، وما سيجري غدا في سورية ولبنان، ومن بعدها في مصر ودول الجزيرة العربية والخليج وكلها دول تجمعها منطقة أزمات وبؤر توتر وأحزمة صراعات تاريخية قديمة تتجدد الآن بعنف، ويقتحمها الغرب بقوة دفاعا عن مصالحه وأهدافه، بينما أهلوها مخدرون مغيبون!
مرة بعد مرة ندق أجراس الانذار لتنبه المخدرين وتوقظ المغيبين ونطلب منهم فقط ان يقرأوا حتى التصريحات الغربية المنشورة في الصحف والمذاعة علنا في التلفزيونات، فهم في الغرب الأوروأميركي أكثر صراحة وشفافية في التعامل أساسا مع شعوبهم، بل أدعي أنهم أكثر صراحة وشفافية في توجيه رسائلهم لنا، وهم على ثقة أننا لا نقرأ ولا نفهم مغزى ما نقرأ حتى وهو بالغ الوضوح!
لقد قادت أميركا وتابعتها بريطانيا الحرب ضد العراق في مارس/ آذار 2003 بقرار منفرد خارج الشرعية الدولية، تجاهلا للأمم المتحدة بمبررات صاخبة، أهمها ان العراق تحت حكم الطاغية صدام حسين، الذي يمتلك أسلحة دمار شامل تهدد الأمن العالمي وأن صدام له علاقة تعاون مع منظمات الارهاب وفي مقدمتها تنظيم القاعدة، وانه متورط بشكل مباشر في الهجمات الدامية ضد نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، الامر الذي يستحق معه العقاب الصارم.
بعد عام ونصف العام من غزو واحتلال العراق واسقاط نظام صدام، وسقوط عشرات الآلاف من القتلى وتصاعد المعارك الدامية اليومية التي لونت بالأحمر القاني مياه الرافدين، وبعد تورط أطراف عربية في تسهيل وربما تشجيع كل ما جرى نجد ان أنفسنا هذه الايام نقرأ ونسمع ما يناقض مبررات الحرب ويسقط قانونيتها على ألسنة من ساقوا وروجوا بالأمس لهذه المبررات، فإذا بهم يضعون تلك الأطراف العربية وفي مقدمتها «كتائب المتأمركين العرب» في ورطة لا تقل عن ورطة الاميركيين في ربوع العراق الشائكة القاسية.
الرئيس الأميركي جورج بوش يعترف بأن المعلومات التي قدمتها له أجهزة مخابراته الرهيبة عن أسلحة الدمار العراقية، لم تكن صادقة، ويقر بأنه لم يعثر على مثل هذه الأسلحة في العراق حتى الآن، على رغم وجود 150 ألف جندي أميركي هناك.
وزير خارجيته كولن باول يعترف بأن صدام حسين لم تكن له علاقة بهجمات سبتمبر، التي انتهكت قدس الأقداس الأميركية.
وأخيراً استيقظ ضمير الأمين العام للأمم المتحدة، ممثل الشرعية الدولية، كوفي عنان، واعترف علنا بأن قرار غزو العراق غير قانوني وغير شرعي، وهو اعتراف تأخر كثيراً وطويلاً.
وأظن ان كل ذلك هز وسيهز ضمير الاميركيين والأوروبيين البسطاء الذين يكتشفون أنهم سقطوا في خديعة كبرى على أيدي قياداتهم، الذين دفعوا بأولادهم الى المقتلة العراقية، لكن الضمائر العربية لم ولن تهتز كما يبدو حتى الآن، لسبب بسيط وسر دفين هو فقدان الحرية والمسئولية، غياب المصارحة والشفافية والمكاشفة، فقدان «النظام» الذي يجبر الحاكم على الاعتراف بأخطائه، ويسمح للمحكوم بأن يحاسبه ويعاقبه على مرأى ومسمع من العالم، والا لكانت الضمائر العربية قد حاسبت صدام حسين على جرائمه ضد الشعب العراقي وجيرانه، قبل ان يحاسبه الغرب الأوروأميركي، والا لتمكنت تلك الضمائر من محاسبة ومعاقبة حكامها الآخرين الذين فسدوا واستبدوا.
أجراس الانذار يجب ان تدق بقوة الآن، ليس فقط تنبيها للنائمين المخدرين من مخاطر ما يجري في فلسطين والعراق والسودان، وما سيتبع ذلك هاجما عبر الحدود، لكن تدق ايضا تحذيرا للمخدرين الغافلين بأن بسطاء الناس قد فاض بهم الكيل من احتكام الازمات الاقتصادية الاجتماعية من تعاظم النساء والفقر والغلاء والبطالة والتخلف، من احتقان العقول والتهاب الأدمغة وفراغ البطون!
أجراس الإنذار تدق بقوة تنبه الى ضرورات الاصلاح الحقيقي، وتحذر من مخاطر التحايل على التغيير الجدي والجذري بعيدا عن تلك الحملات الصحافية الدعائية، التي تروج البضاعة الفاسدة عبر أصوات منافقة، فقدت صدقها وصدقيتها أمام الله وأمام الناس!
خير الكلام
يقول البردوني:
كم شغلنا سوق النفاق فبعنا
واشترينا بضاعة مرذولة
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 747 - الثلثاء 21 سبتمبر 2004م الموافق 06 شعبان 1425هـ