جرت العادة أن يبدأ معظم كتاب الأعمدة وخصوصا المشرفين على صفحات متخصصة ومنها رسائل القراء، وبعد فترة غياب يحتجب فيها عمودهم عن النشر لأي سبب كان... بالترحيب بالقراء ومحاولة جذبهم إلى المشاركة في تطوير الصفحة ودعوتهم إلى التواصل وإثراء الصفحة بمساهماتهم... وهذا وإن كان شيئاً أحبذه وأبدي الرغبة فيه من جانب كل المتابعين لهذه الصفحة، ولكني وددت البدء بشيء، وإن عكر المزاج صباحا، لكن مجرد التفكير في أنه يمس شريحة كبيرة من المطحونين في هذه الأرض وفي احتمال امتداده واستفحاله يجعل من المناص درءه إلى حين.
الحكاية تبدأ باتصال لم أتمكن من معرفة صاحبه غير أنه رجل بدت على نبرة صوته السكينة والحزن... سألني سؤالا واحدا: نشرتم سابقا مشكلات كثيرة على اختلاف تفاصيلها فإنها تصب في مجرى واحد «عاطل عن العمل» فهل وجدت كلها طريقها إلى الحل؟... فأجبت بتردد مصدره قلق من عاصفة ما بعد الهدوء: ربما بعضها وإن كان الراتب لا يبدو أنه سيشبع البطون... ولكن والحق يقال إن غالبيتها لم تجد إلا مساحة من حبر على ورق الصفحة!... والعاصفة التي ترقبتها هاجمتني بجملة منه: «ما في مفر من الانتحار» أغلق على إثرها الهاتف من دون أية كلمة!
الحكاية هذه رجعتني أشهرا إلى الوراء حينما رفعت سماعة الهاتف أيضا في يوم قررت فيه أخذ إجازة من كل شيء حتى المكالمات، ولكن لا أعلم ما الذي دفعني إلى جواب صاحب هذه المكالمة بالذات...
أدنيت الهاتف من أذني وقلت بصوت مبحوح: ألو... فأجابني بالسلام وعرف بنفسه: أنا «فلان»... أنا الذي نشرت قضيتي قبل مدة طالبا فيها مساعدتي في العثور على عمل أؤمن به قوت يومي وعيالي... وهنا سارعت بإجابته: نعم، نعم عرفتك، كيف الحال وإن شاء الله أتيتني بالبشارة وعثرت على العمل المناسب؟
صمت برهة عن الكلام كان خلالها يسترجع قواه ليصدمني بما لم أتوقع سماعه في حياتي: لا. ولن أنتظر أكثر. لقد سئمت هذه الحياة وقررت تطليق زوجتي والانتحار بعدها... وقفت مذهولة وشهقت بكلمات متقطعة: كيف؟ ماذا قلت؟... وبادرني بالقول: لا تستغربي. فكيف يهنأ لي العيش وأنا أشعر بالعجز أمام طفلتي الوحيدة، كيف أحتمل نظراتها المتوسلة لقطرات من الحليب الذي هو كل غذائها، وأنا حبيس اليدين لا أستطيع أن أخرج بقرش واحد يلبي احتياجات عائلتي الرئيسية؟ كيف أقدر على الحياة ذليلا مسلوب الكرامة، أتقبل الحسنات ممن كنت في يوم أعينهم؟
استجمعت قواي وتجلدت الحديث: وهل الانتحار سيعيد إليك كرامتك؟ أم أنه سيحل مشكلاتك؟ أم تراه يجلب الفرج لزوجتك وابنتك فتهنأ لهما الحياة من دونك؟
قال: أعلم بكل ما تقولين، ولكني فقدت صبري ولم أجد بدا من إنهاء حياتي، وما هاتفتك اليوم إلا لتنشري تتمة قصتي علها تفيق كل صاحب ضمير فيعجل بالحلول؟!
كنت قد تجنبت تلبية طلب هذا القارئ، أولا لأنه وعدني بالتسلح بالإيمان وبالصبر بعدما نبهته إلى ما ستؤول إليه حال ابنته عندما يحملها هذا المجتمع القاسي الذي لا يرحم ذنب أبيها الذي انتحر من دون السؤال عما الذي دفعه إلى ذلك؟ وثانيا حتى لا تأخذ المشكلة أبعادا أخرى فتكون وبالا على كثير من العاطلين باتخاذ الانتخار حلا للتخلص من كل ما يؤرق البال.
انتهت المحادثتان، ولم ينته تفكيري فيهما... لم أتخلص من رعشة جسدي وذهول عقلي... وتساءلت: كم من «فلان» لدينا؟ وكم واحد فكر بمنطق «فلان»؟ وكم واحد انتحر فعلا لأنه ببساطة لا يقوى على العيش ذليلا؟
ولا أخفيكم القول إن أول ما تبادر إلى ذهني - حينما سمعت حكاية «فلان» و«فلان» من أولئك القابعين أمام أبواب الوزارات والمؤسسات والمصانع يشحتون حقهم في الرزق بما يرضي الله - قول الرب الكريم: «وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت» (التكوير: 8 و9)... ففلان وفلان اثنان من عشرات بل آلاف من حملة العلم والشهادات العالية، عباقرة ومبدعون... بعضهم وئدت أحلامهم فاستسلموا صاغرين لأبواب الأرصفة والشوارع يتوسلون القرش والرحمة، والآخر يتسلق سور جاره بحثا عن غنيمة تبعث فيه الإحساس بالنعمة، وآخرون مازالوا ينتظرون والشيب غزا شعرهم وما كان لحلم الشباب أن يتحقق... ولا يبقى إلا سؤال نردده: بأي ذنب يوأد شبابنا وأحلامنا؟
مع القراء
أحد رسامي الكاريكاتير المواظبين على النشر في «ركن الكاريكاتير» من صفحة «كشكول» هاتفنا مساء أمس مستاء ومستنكرا عدم نشر بعض مساهماته التي يرى في بعضها قضايا تعيشها الساحة حاليا، ما يستوجب ضرورة نشرها بشكل سريع حتى لا تفقد قيمتها ويضيع معناها بفوات الأوان...
أخي الفاضل... نحن نقدر لك مساهماتك التي هي محط اهتمامنا بل وإعجابنا الشديد... ولكن فلتعذرنا إن لم يجد بعضها طريقه إلى النشر، وذلك ليس انتقاصا من قيمتها، وإنما لكونها تقع ضمن الدائرة الحمراء التي مازالت تطوق رقابنا جميعا بحبل مرتخ قليلا، ينتظر منا زلة في محاولتنا التنفيس ولو بجزء بسيط عن مكنون خلجاتنا المكتوية بنار تقلبات هذا الزمن وعواصفه، حتى يشد من عقدته مستحكما إياها وبالتالي لا مفر من الموت المحتوم.
ومن هنا كان علينا وإياكم أن نلتزم المنطقة الوسطى التي لا شك سنجد فيها قليلا من الرحمة التي وإن لم تشفِ الغليل كله، فإنها ستطبب الجرح وتسكن الألم ولو مؤقتا.
وما قيل سابقا من الممكن أن يصل إلى قارئ آخر من المساهمين في هذه الصفحة والذي يتميز بكتاباته النيرة عما يمس المواطن المقهور على هذه الأرض... وأتمنى أن يكون الآن قد فهم لب الحكاية التي لم نرض خطها بل أجبرنا على مجاراة تعليماتها ونرضى - كما ذكر سابقا - بالوسط حتى يحين الفرج. وليس معنى ذلك أن نحاول أن نطلي الواقع باللون الوردي، إذ ليس من أهدافنا ولا بمقدورنا أبدا اللعب على الذقون، فالقارئ، والمواطن عموما أقدر على العلم بما ليس معلوم وإن حاولنا بهرجته بمكياج فاقع. وقيل من زمان «خير الأمور أوسطها»
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 745 - الأحد 19 سبتمبر 2004م الموافق 04 شعبان 1425هـ
