وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفد من عبرها
(...)
إنه هو الذي فتح مجازات الجبال
وحفر الآبار في مجازات الجبال
وعبر المحيط، إلى حيث مطلع الشمس
(...)
كان طوله أحد عشر ذراعاً وعرض صدره تسعة أشبار
ثلثاه إله، وثلثه الآخر بشر
وهيئة جسمه مخيفة كالثور الوحشي
وفتك سلاحه لا يضاهيه ويصده شيء
(...)
لم يترك «جلجامش» ابناً طليقاً لأبيه
لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
(...)
لم يترك جلجامش عذراء لأمها
ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل»
وصف لغلغامش في ملحمة غلغامش
في الأدبيات العراقية قبل سقوط «الطاغية» ونظامه المنبعث من رماد الفكر والمستبعث من ذات الفكر في الزمن الرديء يُذكر ويُصاغ بشيء من التقديس والبهرجة والعزف على أوتار اللغة بأن صدام حسين هو «جلجامش» العصر! وهؤلاء المغرّر بهم فكراً وحساً ووجداناً يستخدمون ويوظفون المفردة (جلجامش) بنقش الحرف «ج» بدلا من المفردة الصحيحة «غلغامش» بنقش الحرف «غ» لتمييزها عن الأصل الذي هو مستخدم من قبل النوابغ والمختصين في علم التاريخ والحفريات وخصوصاً علم التاريخ العراقي السحيق: تاريخ «بلاد ما بين النهرين» أو «بلاد الرافدين» أو حضارة «آشور» أو «بابل» وغيرها من تلك الحقب التاريخية العظيمة لهذا البلد الكبير الذي جعله «جلجامش» عصره وزمانه -كما يزعم الزاعمون - بلداً يسكنه الأشباح والمعدومون والباحثون عن الحرية والكرامة العطشى لكل شيء حتى الدم في زمن همه الأول والأخير أن يرتقي بالانسان إلى مصاف القديسين والآلهة. غير ان السادة ذاتهم الذين وظفوا أقلامهم - لا فض فوهم ولاجفت محابرهم - اختلفوا في من يسمون «أنكيدو»! ذلك الصديق الذي صنعته الآلهة ليوقف «غلغامش» عند حده وينهي ذلك الهوس الذي عنده للطغيان وتنكيل حياة الناس وجعلها جحيماً. وكأنما هم بقايا من بقايا الدواب أو أقل من ذلك بمراتب، أنكيدو هذا صنعته الآلهة لينهي آلام الناس لما أصابهم من غلغامش من ذعر وخوف إذ لم تبق عذراء إلا وفض بكارتها، ولم يبق فلاح إلا سلبه محصوله، ولم يبق تاجر إلا ونهب تجارته، ولم يبق ضعيف إلا زاده ضعفاً على ضعف، ولم تبق امرأة إلا دخل جلاوزته غرفة نومها وداسوا بأقدامه النجسة أماكن الطهارة لديها، ولم تبق أم إلاّ ودنس مكان صلاتها بأحذية مرتزقته وجلاوزته.
كان يومذاك هو الباطش الأشر بين كل الموهومين ببطش الناس وإرعابهم. كان بين كل الموهومين بالقوة الخادعة المخادعة التي أغرتهم إلى فعل ما لا يمكن أن يتصوّره عقل من أفعال شنيعة في حق الإنسانية. يومذاك لم يكن يضاهيه في بطشه مغرور آخر. نقول اختلف «الرفاق» في عصر «العراق» «البائد» في من يسمون «إنكيدو» فنراهم تارة يسمون «طارق عزيز» بـ «انكيدو»، وتارة يسمون «طه ياسين رمضان» بـ «انكيدو»، وتارة آخرين ليس لهم أهمية تذكر غير انهم في الآونة الأخيرة وجدوا ضالتهم في فقير الحي «بائع الثلج» في الشتاء إذ ليس للناس به حاجة: «عزة الدوري» ليصبح في غفلة من الزمن «أنكيدو» زمانه وعصر أقرانه!
وقد تضاربت منذ أيام الأنباء بشأن صدقية واحتمال اعتقال «أنكيدو زمانه» وهو مختبئ (في حلة وحال أبهى من حِلة وحال صاحبه) تماماً كما كان «جلجامش» عصره وزمانه في خربة من الخرائب التي تُرِكَت أطلالاً لتظهر وتبرز جلياً للموهومين بما يغلف أجسادهم من وهمٍ بقوة في العضلات وتضخم في الذات ومن فكر صبياني عدواني لا يضع في اعتباره أي شيء لحق الناس في العيش الكريم ومساحة واسعة وجريئة من الحرية لتمكنهم من تحقيق آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم حتى تحقيق أحلام أعدائهم والموهومين بالسلطة منهم. أطلالاً كانت ومازالت أيقونة الموهومين بالسلطة والتسلط لكي يراها المستقبل حيث الكرامة الإنسانية القادمة هنا لا محالة عما قريب، والتي ستضع كل الموهومين في غياهب التاريخ. الكرامة التي انتصرت فيما مضى على «غلغامش» وشروره وجعلت من ربيب الحيوان رفيق دربه «أنكيدو» محبين للإنسانية لا أعداءها وأعداء الضمائر الحية التي تحميها. لقد تحوّل جبار ذلك العصر «غلغامش» بعد موت رفيق دربه «انكيدو» إلى حمل وديع، غير انه لم يختبئ في جحير من أجحار المحاجر التي لفظها التاريخ، بل هام على وجهه في البرية بحثاً عن الخلود. وليت صاحبنا إياه فعل الشيء نفسه، ولكن أين هم أمثاله والعالم أصبح وأضحى قرية بل زقاقاً في قرية نائية يعرف فيها كل صغيرة وكبيرة، هذه حقيقة فقط لمن لهم أعين ترى وآذان تصغى وأفئدة حية.
ويومذاك لما كان «أنكيدو» على فراش المرض في اليوم الثاني عشر خاطب العظيم يومها «غلغامش» قائلاً:
«يا صاحبي لقد حلّت بي اللعنة
فلن أموت ميتة رجل سقط في ميدان الوغى
كنت أخشى القتال (ولكنني سأموت ذليلاً حتف أنفي)
فمن يسقط في القتال يا صديقي فإنه مبارك»
هكذا تحسر صديق «غلغامش» الأصلي لا المزيف على موتته موتة الجبناء لا الشجعان والأبطال الذين يموتون في ساحة القتال ضد الباطل. وهو ما يبرهن لنا هنا ومن دون أي شك على أن ذلك العصر الذهبي لبلاد النهرين كان عصر الأبطال الذين سطروا التاريخ بماء من ذهب، وإن عصرنا هذا عصر الجبناء الأنذال والأذلاء الذين باعوا الأوطان كما تباع القيان في سوق النخاسين؛ جبناء يختبئون في جحور وأطلال يتصيدون الفرصة للهرب بعباءة امرأة على قارب يعبرون به أنهار «بلاد النهرين» إلى حيث حفظوا وخبأوا ملايينهم أو ملاليلهم!
مات «أنكيدو» وانكسر ظهر «غلغامش» وبكى «بكاءً مراً» وتاه في البراري، «وحل الحزن والأسى» بجسمه، وصاح مع خيوط الفجر الأولى:
«ليبكك من عظم اسمك في أريدو
ومن مسح ظهرك بالزيت المعطر وسقاك الجعة
ولينح عليك من أطعمك الغلة
ولتبكك الأخوة والأخوات»
هذا ما كان يومها... إما اليوم فإن «أنكيدو» العصر وصاحبه «جلجامش» لن يبكي أحدهما الآخر إطلاقاً. ونضيف انه لن يتحسر أي منهما على الآخر مهما حصل، فكأن كلاهما يتحين الفرصة لينقلب على صاحبه، ولكن شاءت الأقدار أن يأتي من هو أقدر على الإطاحة بكليهما شر إطاحة.
لا داعي هنا أن نعرف بـ «أنكيدو» العصر المدعو «عزة الدوري»، فالكتابات التي لا تتصل بالإنسان وفكره عن هذا الذي أزبد وأرعب واهتز وانتفض في مؤتمر للرجال وخاطب المجتمعين بخطاب لا يتصل بحضارة بلاد أنجبت حقيقة بطل الأبطال «أنكيدو»، وأنجبت مفكرين مما لا ينضب فكرهم أبداً إذ تنهل منه الإنسانية جمعاء. غير اننا سنشير إشارة خاطفة إلى كيان الرجل.
«ولد عزة إبراهيم الدوري العام 1942، وذكرت «أم علي» وهي مدرسة في «مدرسة الدور» أنها كانت تلتقي بهذا الصبي وقد افترش باب الدار، وغمر وجهه سرب من الذباب» (وهي صورة حقيقية صادقة لمجمل الشعب العربي الفقير من محيطه إلى خليجه، إذ الأمراض بمختلف صورها العضوية منها والفكرية وليس من أحد هناك ينظر في هذه المسألة) وذكرت أنه «نشأ وهو يحمل كلّ عقد الشعور بالنقص والانسحاق، ليس أمام أبناء تكريت فحسب، بل أمام أبناء قرية العوجة أيضاً، فبرع بالخضوع والانحناء لابن القرية الأول (أحمد حسن البكر)، ومن بعده للطاغية صدام. وتشير إحدى الموارد الإخبارية أن الدوري في واحدة من حالات الذلة والخضوع التام، رفع برقية إلى سيده الطاغية، عندما عينه قائداً للمنطقة الشمالية في منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول 1998 قائلاً: «إلى الجبل مجداً وعزاً، إلى البحر الزاخر جوداً وكرماً... إلى المستشرف بهمته جبين النجوم العالية إصراراً وعزماً، إلى الذي رجلاه في ساحة الوغى وفؤاده أرسخ من الطود منكباً، إلى سيف علي والى إباء الحسين، وصولة عمر، وحنكة خالد، إلى منبع الدوحة النبوية الزاهرة وسليل الطاهرة، إلى سيدي الرئيس المفدى صدام حسين حفظه الله ورعاه» كانت هذه الخطابات وأمثالها هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فهل لنا أن نفيق وأن نسمي الأشياء بمسمياتها؟
وبعد الانكسار الرهيب لصاحبه واختفائه في ما تعرفون ويعرف الجميع، بايع الدوري «عزة» مصعب الزرقاوي الذي رأى فيه ما رأى في صاحبه الأول: دم يراق على الطرقات، شعب يشرد في أقطار الدنيا، حلبجات جديدة، حروب على النمط نفسه، وحروب كيماوية وغيرها جرثومية إضافة إلى حروب أهلية تمتد من الجنوب إلى الشمال؛ هنا وقائع البيعة عن «شفاف الشرق الأوسط»: «وقائع البيعة بعد اللقاء بين عزة أبراهيم وأبومصعب الزرقاوي»:
«توجه عزة ابراهيم يرافقه أبناؤه وعدد من المجاهدين في طريقهم الى أبومصعب الذي كان في استقبالهم، وحين وصولهم كانت هتافات المجاهدين بالتكبير الله أكبر الله أكبر الله أكبر».
لقد أتى عزة الدوري هو وأبناؤه الثلاثة أحمد وهو أكبرهم، والمقداد وابراهيم - لقد أتى الأب وأبناؤه مبايعين على الجهاد في سبيل الله وتسخير كل ما لديهم من مال وعتاد دفاعاً عن دينهم ووطنهم وشرفهم. وكان قد أعد استقبالهم من قبل المجاهدين حتى تيسرت لهم مقابلة الزرقاوي، وكان حينها لقاء الابطال، فكانت مقابلة تعطي الحماس والمعنوية للكل. وكانت طلقات العيارات تدوي مسامعها بالمنطقة. فاذا أبومصعب الزرقاوي يأتي مهرولاً وعن يمينه وشماله أخوانه المجاهدون وغبارهم يغطي سيرهم المبارك.
وعزة ابراهيم يهتف قائلاً: «أنت القائد ونحن جنودك»، وعندها أخرج أحمد ابن عزة أبراهيم مصحفاً فيتناوله أبوه ويأخذه منه ويضع يده بعدما جعل أيدي أبنائه عليه ويحلف قسماً ويميناً مغلظة بأنه وأبناءه وقف لله عز وجل. اللقاء كان عاجلاً، عندها تم توزيع الأبناء بين صفوف المجاهدين والأب في معية الرحمان وأبومصعب ورفاقه المجاهدين.
يذكره أنه تم في ذلك اليوم توزيع مئات الرشاشات والعيارات بجميع أنواعها بين صفوف المجاهدين. في اليوم ذاته أعلنت شبكة «كربلاء للأنباء» عن موت «الدوري» بسبب أمراضه التي استعصت على الطب والعلاج، ولكون كثير من قبائل العراق رفضت مساعدته في إيجاد علاج ناجع لأمراضه المزمنة الجسدية والنفسية. وقد تم دفنه سراً في مدينة «الحويجة» التي تبعد خمسة وأربعين كيلومتراً عن كركوك. غير ان أخباراً أخرى تذكر أنه يتنقل بين الحدود العراقية ودول الجوار، ويستبدل دمه يومياً حتى يتغلب على سرطان الدم الذي يعاني منه.
في أحد شوارع بغداد الرئيسية تجتمع منذ مساء يوم الأحد جماعة عراقية في إحدى المقاهي الشعبية يرددون: «يا بطة دوري دوري، أمس صدام اليوم الدوري»، و«يادنيا دوري دوري جاك الدور يا الدوري».
الحقيقة التي أؤمن بها أن «الدوري» أكان «إنكيدوا» أو لم يكن، هو في قبضة الحكومة العراقية معتقل، وأن هذه الحكومة تنفي خبر اعتقاله لتأخذ الحيطة والحذر من هجمات قد يشنها عليها جماعة الزرقاوي وغيره، وهي بذلك تظهر عقلانية قد يحسدها عليها كثير من الحكومات التي تتباهى باعتقال مناوئيها.
يا ترى على من الدور القادم من الزعماء العرب الذين لا يضعون لشعوبهم أي احترام والذين لم يتعلموا منذ عهد «غلغامش» الأول حتى عهد «جلجامش» الأخير ومن بينهما من جلاجمشة لم يتعلموا الدرس العظيم الذي يعلمنا إياه التاريخ، بأن الذين يتوهمون جداً بعضلاتهم وعضلات أبنائهم وعضلات أحفادهم وعضلات حلفائهم الأقوياء قبل الضعفاء أنهم وجميع من يساندهم مآبهم إلى مزبلة التاريخ وفي أنتا وأردا موضع فيها.
كاتب بحريني
العدد 744 - السبت 18 سبتمبر 2004م الموافق 03 شعبان 1425هـ