لقد أذهلت جميع المراقبين السرعة التي انهار بها النظام العراقي وجيشه القوي، إذ توقع بعضهم أن يصمد النظام فترة لا تقل عن ستة أشهر، وان تتكبد قوات التحالف خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات. فتعداد القوات المسلحة العراقية يزيد على نصف مليون فرد مدربين جيداً على القتال في أصعب الظروف ولديهم خبرة جيدة اكتسبوها من حربهم الطويلة ضد إيران وحين احتلال الكويت وفي سحق الانتفاضات الشعبية المتكررة في الشمال والجنوب. ولكن شيئاً من ذلك التوقع لم يحصل، فقد غادر السياسيون مقارهم وترك العسكريون مواقعهم للناهبين والسالبين، ما سهل على قوات التحالف احتلال بغداد بسرعة قياسية وانتهى الفصل الأول باحتلال العراق وبدأ الفصل الثاني. وكان مذهلاً أيضا للمراقبين إذ لم يكن متوقعا أن تحصل مقاومة عنيفة لقوات الاحتلال من جميع فئات الشعب العراقي الذي رحب بالأمس بقوات التحالف باعتبارها حررته من صدام حسين ونظامه المستبد. والسبب ما ارتكبه الاحتلال من أخطاء مازالت الحكومة العراقية المؤقتة تعاني من آثارها السلبية، ومن بينها حل الجيش العراقي وجهاز الأمن والشرطة ووزارة الإعلام، واستبعاد البعثيين من الحياة السياسية. ونتيجة لتلك القرارات المتعسفة أصبح مئات الألوف من العراقيين بلا أعمال، ما دفعهم للاجتماع على مقاومة الاحتلال لان «المصائب تجمعن المصابين» كما يقول المثل.
ومن تلك الأخطاء أيضاً ترك الحدود العراقية مع دول الجوار مفتوحة من دون رقيب، ما سهل على آلاف المتسللين دخول العراق والعيث فيها فساداً، ومن أولئك المتسللين فئات متطرفة جاءت إلى العراق لتتقرب إلى الله بقتل الكفار الأميركان وبعض المسلمين أيضاً، وانضموا إلى المقاومين العراقيين ونسقوا معهم وصاروا جميعاً قوة كبيرة تقتل وتحرق وتفجر وتهاجم وتخطف، وهدفهم خلق جو من الرعب واليأس لدى الشعب العراقي يدفعه لطلب الرحيل العاجل لقوات التحالف، وبذلك يتسنى لهم العودة ثانية للسلطة. وهناك الكثير ممن يؤيدونهم ويشجعونهم ويدعمونهم مادياً ومعنوياً، ومن هؤلاء علماء دين وصحافيون ومحطات إذاعة وتلفزيون، دأبت على بث أخبارهم وتبرير أعمالهم واستضافة أشخاص يؤيدونهم.
منطلقات المقاومة
من حيث التصنيف هناك ثلاثة أقسام: القسم الأول هم يرون أن الولايات المتحدة الأميركية وتحت ذرائع باطلة وحجج واهية احتلت العراق بالقوة العسكرية وعليها أن تخرج وتدع العراق للعراقيين، وأنها لن تخرج من العراق إلا بالمقاومة المسلحة العنيفة، لذلك فهم يقاتلونها وهدفهم إجبارها على مغادرة العراق وتركه لأهله العراقيين.
والقسم الثاني من المقاومة هم أنصار النظام السابق، ممن كانوا على عهده في نعمة ضافية، فكان منهم كبار المسئولين والضباط والتجار و... ولما زال النظام زالت معه تلك النعمة، لذلك فهم يحاربون من أزال نعمتهم، سواء من قوات الاحتلال أو من العراقيين المتعاونين معهم فكلهم عندهم هدف وكلهم أعداء.
أما القسم الثالث فهم الذين تسلّلوا للعراق بعد سقوط النظام، ومنهم جماعات متطرفة جاءوا لقتل الكفار الأميركان واستهدفوا بعض الفئات العراقية، وانضموا للفئة الثانية من المقاومة ونسقوا معها، وكان أكثر ضحاياهم من العراقيين لأنهم يهاجمونهم وقت الاجتماعات الحاشدة، كما كان في مقتل الزعيم الديني السيدمحمد باقر الحكيم والمئات معه في صلاة الجمعة في النجف الاشرف، ومقتل مئات المعزين في كربلاء والكاظمية، ومقتل العشرات من أفراد الشرطة العراقية، ثم قتل الشخصيات السياسية مثل عقيلة الهاشمي وعزالدين سليم وغيرهما، وكذلك مهاجمة البعثات الدبلوماسية كمقر الأمم المتحدة إذ قتل دوميللو وعدد كبير من العاملين معه ومهاجمة السفارة الأردنية، وكذلك التخريب المتكرر لأنابيب النفط ومنشآته في الشمال والجنوب بغية توقف تصدير النفط. وأخيراً عمليات خطف الأجانب العاملين في الجمعيات الإنسانية والخدمية والإعلامية وقتلهم ذبحاً أو طلب فدية كبيرة مقابل إطلاق سراحهم، كل ذلك يتم تحت عنوان «مقاومة الاحتلال».
هذه هي الفئات التي تقاوم الاحتلال في العراق. أما وقفتنا مع الفئة الأولى من المقاومة التي تحارب الاحتلال فقط وهو بلا شك حق مشروع فانا نلفت إلى الوجه الآخر من المقاومة وهي المقاومة السياسية الاجتماعية التي يسلكها معظم الشعب العراقي وفي مقدمتهم المراجع الدينية والرموز السياسية وعلى رأسهم المرجع الديني الأعلى السيدعلي السيستاني الذي قال مراراً: «إنا ننتظر أن تفي قوات التحالف بوعودها في إقامة حكم ديمقراطي في العراق وإذا لم تف بتلك الوعود سيكون لنا معها شأن آخر». وكذلك ما قاله الشيخ أحمد الكبيسي، وهو من علماء السنة الكبار بعيد سقوط النظام: «لن نطلب من قوات التحالف الرحيل الآن بل نطالبها بإقامة النظام الديمقراطي الذي وعدتنا به». ولقد تحقق شيء مما وعدت به قوات التحالف، فبعد أن كانت جميع الأمور والصلاحيات في يدها، صار جزء منها في يد العراقيين، إذ تم تشكيل مجلس الحكم ثم صدر الدستور المؤقت ثم تشكلت حكومة انتقالية، ثم حكومة مؤقتة واختير مئة عضو للمجلس الوطني من بين ألف وثلاثمئة شخصية عراقية. والعراقيون في انتظار إجراء انتخابات عامة حرة لاختيار الحكومة الدائمة والمجلس النيابي الدائم في مطلع العام 2005. فلماذا لم تترك الفرصة للشعب العراقي ليقرر بكل فئاته وأطيافه الطريقة التي يتعامل بها مع الوضع القائم ومع قوات التحالف؟
أما تقييمنا لظاهرة السيدمقتدى الصدر فإنه من حيث المكانة الاجتماعية والنسب في الذروة العالية، أما مكانته العلمية وسنه السياسي فهو اقل من طموحه الذي جعله يفكر في أن يكون في مقام السيدمحمد باقر الحكيم. وقد التف حوله الكثير من الفقراء والمستضعفين، وهم يخوضون حروبا متفرقة ضد قوات الاحتلال والقوات العراقية، وانضم إليهم الكثير من أنصار النظام السابق ومن المتطرفين القادمين من الخارج لتتسع الاشتباكات في الأماكن المقدسة ويلحق بها أكثر ما يمكن من الدمار والخراب، وكم تمنينا أن يسلك خط المرجعية الدينية التي يزعم انه يتبعها في مقاومة الاحتلال، وان يتصرف بحذر شديد كي يفوت الفرصة على الجهات التي تريد للعراق عموماً وللأماكن المقدسة خصوصاً الشر.
كاتب بحريني
العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ