انه لمن دواعي الفخر والاعتزاز أن نعيش أجواء احتفالية مؤتمر الشيخ الرئيس ابو علي ابن سينا الدولي في احضان الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي ما فتئت أرضها المعطاءة تخرج العظماء جيلاً بعد جيل، والأكابر عصراً بعد عصر، والجهابذة قرناً بعد قرن. تلك الاحتفالية التي تعنى بتعظيم هذا العالم العظيم بما يليق به من حفاوة وتقدير وتجليل، واشادة بمآثره وآثاره التي كانت ولاتزال شموساً تضيء في سماء العلم والمعرفة، تستنير بها الاُمة الإسلامية خصوصاً، والبشرية جمعاء عموماً، على درب نهضتها وبناء أمجادها.
ما أكثر كم العلماء الذين أنجبتهم الأمم على امتداد التاريخ، وما أكثر آثارهم التي سجلت لهم بالذكر والاسم والرسم . لكن لا نجد من بين أولئك إلا فئة قليلة نادرة قد تسنمت أوج المجد والشهرة، وتربعت علي كرسي الريادة على مرّ العصور، على رغم مرور قرون متطاولة من الزمن، وعلى رغم التطور الهائل في العلوم والمعارف والتكنولوجيا.
لقد كان بحق أحد أقطاب النهضة الإسلامية العالمية، وواحداً من أكبر العباقرة الذين جادت بهم الأمة الإسلامية للبشرية جمعاء.
ومن الذين مازالت البشرية تعترف لهم بالجميل وبأياديهم البيضاء ومساهماتهم الجلية الجليلة في تأسيس معارفهم وثقافاتهم التي وضعوا لبنات قواعدها، وغرسوا بذورها بل وكل ما وصلت إليه عجلة التقدّم المادي والازدهار الصناعي والنمو الحضاري، وماتنعم به من نقلة نوعية في جميع مرافق الحياء.
نعم لقد كان ابن سينا الشيخ الرئيس واحداً من أولئك العظماء الأعلام النوادر الذين تزهو بهم أمتهم، وتزدان بهم معالم حضارتها الإسلامية التليدة.
وما انعقاد هذا المؤتمر الدولي لتمجيد ذكرى هذه الشخصية الفذة، والإشادة بها بعد مرور ما يقرب من ألف عام (و370 هـ - ت 428 هـ ) إلا اكبر دليل على ما ذكرناه وأشرنا اليه.
من أجل ذلك حق لشعب عظيم مثل الشعب الإيراني أن يعظّم شأن هذا العظيم، ويخلّد ذكراه في ذاكرة تاريخه العريقة المعاصرة بما يليق به من حفاوة وتقدير وتجليل، وكذلك يحق للعالم المتمدن المتحضر المنصف على اختلاف قومياته ومذاهبه ولغاته أن يشدّ مفكروه وعلماؤه ومثقفوه رحالهم لحضور هذه المناسبة الكريمة والإسهام في انجاحها بشتّى السبل لتعود بالنفع على الجميع لما تتجلى فيها من معايشة لأجواء صحوة إنسانية وعلمية وحضارية من خلال الاستنارة بآثاره والاستضاءة بمنهجه العلمي، واستلهام الجد والمثابرة من مسيرته وسيرته لإعادة المجد الغابر والماضي العريق أكثر فأكثر من أي وقت مضى.
لقد خطّت يراعه ما يربو على المئتين والأربعين مؤلفاً، وسطر بقلمه من المصنفات ما تزهو به المكتبة الإنسانية والإسلامية، ما يُعَد ويصنّف من الرعيل الأوّل. ففي الفلسفة والحكمة والإلهيات والمنطق ما يقرب من مئة وعشرين عنواناً أشهرها «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات» و«التنبيهات» و«الحكمة المشرقية».
وفي الطب ما يقرب من أربعين عنواناً أشهرها «القانون في الطب» و«الفصول الطبيات»، وفي بقية الفنون من الرياضيات والفلك والنجوم والتفسير وغيرها ثمانين عنواناً.
وقد أضحت تلك الآثار من أهم المصادر في فنها وفئتها، نهل منها ذوو الاختصاص قروناً متطاولة، وعكفوا على مطالعتها بالدرس والتدريس والشرح والتعليق وتناقلوا نظرياتها للإحتجاج في مقام النقض والإبرام.
كما سطّر الشيخ الرئيس ابن سينا من خلال سيرته وجهاده العلمي وعطاءاته المعرفية أموراً مهمة ينبغي علينا الالتفات إليها للاستلهام منها والاعتبار بها في سيرتنا وسيرة أجيالنا الناشئة، نوجزها بما يأتي:
ضرورة تقديس العلم والمعرفة باعتبارهما أهم الكنوز الحقيقية، وأهمية صرف العمر في تحصيلهما والاستزادة منهما، لكونهما من الفرائض الشرعية الكفيلة بتأمين حاجات الإنسان للرقي والازدهار، وتحصيل السعادتين الدنيوية والأخروية.
قدرة الإنسان على الجمع بين ثقافات متعددة واحتضان محاسنها وقمة الإمكانات المتاحة في بيان لغاتها الخاصة كاللغتين العربية والفارسية وتوظيف روائع أساليبها في مجال التصنيف والتأليف.
امكان الإبداع في التصنيف من خلال الإضافة النوعية غير المسبوقة للمكتبة الإنسانية والإسلامية واثرائهما مضافاً للإضافة الكميّة.
قابلية الإنسان لاستيعاب عدّة علوم وفنون وامكان الإحاطة التامة بجزئياتها والإلمام بدقائقها وما لطف من مسائلها وموضوعاتها.
قدرة الإنسان على التبحر الموسوعي والتدوين الموسوعي من خلال كتابيه «القانون في الطب» وكتاب «الشفاء»، وذلك في شتى حقول العلم والمعرفة، والإثراء المتميّز فيهما بالجهد الفردي.
عدم السماح لصعوبات الحياة و ظروفها العصيبة التي تعصف بنا بين الحين والآخر، بالحيلولة دون الجد والاجتهاد في التحصيل العلمي والتصنيف في شتى ميادين العلم والمعرفة.
ضرورة الاتصال والتواصل بالحواضر والمراكز العلمية ومتابعة النتاج العلمي المتجدد، والوقوف على آخر النظريات لمواكبة الحركة العلمية وصقل العقل وإزاحة ما يعتريه من القصور والنقص والإسهام جنباً الى جنب مع علماء ومفكري تلك المراكز في الإثراء العلمي والمعرفي بعيداً عن التعصب والاستعلاء على الآخرين.
أهمية المكتبة في حياة العالم وما يمثله توافر المصادر والمصنفات في تنمية وتطوير وصقل القدرات العلمية والقفز بها الى مراحل علمية متقدمة، وهو الدور المشهود الذي لعبته (مكتبة آل سامان) في حياته إذ كانت تضم أنفس المخطوطات في الفلسفة والعلوم المختلفة في مدينة بخارى وتأثيرها الكبير على بداية مشواره في التصنيف والتأليف.
أهمية الانقطاع و التفرّغ وترك التشاغل بما يعوق التحصيل العلمي والكتابة والتصنيف ومواصلة المسيرة العلمية وشق طرقها ليؤمن الوصول إلى مقاصدها وطموحاتها وغاياتها ونتائجها المرجوة.
أهمية الدعم المادي والتمويل المالي في تسريع الخطى نحو بلوغ الكمالات العلمية بأقدام ثابتة وتنمية المواهب والمدارك المعرفية وتعبيد الطرق نحو النجاح تلو النجاح في شتى حقول العلم والمعرفة ليؤمن الانقطاع والتفرغ للتحصيل والانكباب على الدراسة والإلمام والاستيعاب والعطاء وهذا ما نجده أيضاً بوضوح في أبرز سمات حياة الشيخ ابن سينا، وكيف ساهم اختصاصه بصحبة من أمثال السلطان الساماني والسلطان محمود الغرنوي والأمير ابو الحسن علي ابن المأمون ( 378 400 هـ)، وملك خوارزم الأمير أبو العباس المأمون (400 407 هـ)، والأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير الزيباري (388 403 هـ )، والأمير مجدالدولة ابو طالب رستم بن فخر الدولة الديلمي (379 423 هـ)، والأمير شمس الدولة ابو طاهر شاه خسرو بن فخر الدولة الديلمي، وعلاء الدولة ابو جعفر محمد بن دشمنزيار الديلمي (387 433 هـ) في توفير كل ما يحتاج اليه من تمويل ودعم لحركته العلمية حتى بلغت ذلك المبلغ العظيم بالاضافة إلى استنساخ مصنفاته فور الفراغ منها وتوزيعها بين العلماء والمحافل العلمية واهدائها لمكتبات الملوك والأمراء المعاصرين آنذاك.
ونجد في المقابل كيف كان الخليل بن أحمد الفراهيدي تلميذ الإمام الصادق عليه السلام (100 175 هـ) العالم اللغوي المشهور على رغم تبحره و نبوغه وتضلعه في الكثير من العلوم بما فيها الطب مضافاً لعلوم اللغة والذي قيل في حقه (أكلت الدنيا بعلم الخليل وهو في خص لا يشعر به) كيف حرمنا فقره المدقع من إسهاماته العلمية التي كان بإمكانه أن يضيفها ويثري بها المكتبة الإسلامية غير كتاب «العين» الذي يعد أول قاموس لغة في تاريخ البشرية وكيف أنه غادر موطنه البصرة وترك تلاميذه الى خراسان لأنه لم يكن يجد فيها ما يقتات به ولم يحصل على من يؤمن له معيشته بالحد الأدنى كما ذكر المؤرخون.
أهمية الانكباب وتكرار المطالعة و القراءة الفاحصة المتمعنة في مصادر العلوم والمعارف والفنون لاستيعاب دقائقها وجزئياتها وكل إشاراتها وهذا ما نستفيده مما حكي عن الشيخ ابن سينا من أنه قرأ كتاب ارسطاطاليس في المنطق مكرراً مئتي مرّة، وفي كل مرّة كان يعيد قراء ته كانت تتضح له من الرموز والإشارات التي أضنى مؤلفه نفسه في إخفائها ما لم يلتفت اليه في المرة التي سبقته حتى أصبحت له من القدرة على محاكاة عقلية أرسطاطاليس نفسه ومعرفة كيف كان يفكر حين تأليفه له .
ضرورة توظيف العلوم لخدمة مقاصد الشريعة المتعالية وطبيعة الضمانات التي تطرحها لسعادة الدارين، وابراز أهداف الرسالة الإسلامية الخاتمة وسموها ورقيها ومثالية مبادئها ونسق الأفكار والمعارف التي تطرحها لإنماء الفكر الإنساني الشمولي العالمي، وبيان غوامض علومها الحقة عن المبدأ والكون والعوالم والإنسان وما الى ذلك.
الختام
نعم لقد قدم الشيخ الرئيس ابن سينا عطاءه الثر و نتاجه الغني الخصب قبل عشرة قرون بما نال به اعجاب المعاصرين و المتأخرين على مر الأجيال، وطأطأ العالم إجلالاً وإكباراً لشخصه ونتاجه، واحتضن مصنفاته وأولاها غاية الأهمية والاهتمام والعناية، وترجم أهم ماكان منها في الطب والفلسفة والحكمة الى اللغات الأوروبية الدارجة من أجل عموم النفع والاستفادة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، واعتمدت للتدريس في كل أوروبا زهاء أربعة قرون متتالية، وطبعت مكرراً بعد انتشار وسائل الطباعة ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي.
ان الشعب الذي انجب مثل هذه الشخصية العظيمة المتميزة المعطاءة لن يعجز ويبخل عن انجاب مثلها من العظماء. وهاهم اشبال اليوم ابناء اولئك الافذاذ الاوائل لهم من الطاقات الذهنية الوقادة ما تحتاج معها فقط الى التفات وعناية واهتمام ورعاية وتشجيع وصقل لتتمكن من أخذ موقعها اللائق بأمتها.
نحن في أمس الحاجة اليوم لأكثر من ابن سينا معاصر في كل العلوم والفنون في ظل التطور العلمي الهائل، ليأخذوا بأيدي شعوبنا المسلمة الى العلياء وذروة الرقي والازدهار، ويحققوا لأمتهم وأنفسهم ما يصبون اليه من الأمجاد والرفعة والسؤدد في عالم التسابق العلمي المحموم
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محسن آل عصفور"العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ