في أواسط سبعينات القرن الماضي أسقطت حكومة الولايات المتحدة الأميركية ديمقراطية «ذو الفقار علي بوتو» الجنينية وهي في مهدها بواسطة انقلاب عسكري مدبّر، وكان من بين أهم الذرائع التي سهلت العملية هو الملف النووي الباكستاني آنذاك، إذ كان بوتو يخطط لبناء قدرة بلاده النووية بالتعاون مع أوروبا، وتحديداً مع فرنسا بعيداً عن الارادة الأميركية الهيمنية.
وفي مطلع الثمانينات هاجمت طائرات حربية إسرائيلية وبضوء أميركي أخضر، مفاعل تموز العراقي في بغداد، لتبدأ بالعملية المذكورة مرحلة طويلة أريد لها أن تكون الإشارة المبكرة إلى أن «الشرق الأوسط» العربي والإسلامي لا مكان فيه إلاّ لقوة نووية واحدة تعمل بالتحالف الاستراتيجي العضوي مع الولايات المتحدة الأميركية ألا وهي «إسرائيل».
صحيح أن باكستان تحوّلت فيما بعد إلى قوة نووية إقليمية، لكن ذلك لم يحصل إلاّ في إطار «السيطرة» الأميركية على تلك القوة، سواء في مرحلة السياسة لردع القنبلة النووية الهندوسية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي السابق أو في مرحلة «الاحتواء المزدوج» لكل من الهند والباكستان في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. مع تأكيد الضمانات الاستراتيجية المستوفاة من الباكستان أن تبقى بعيداً كل البعد عن الصراع العربي - الإسرائيلي أو «الإسلامي» - العبري في الشرق الأوسط العربي.
ومع اختلاف الحيثيات والزمان والمكان وسياق التطورات وشكل الحكم الإسلامي في طهران ونوايا العاصمة الإيرانية التي ما انفكت تؤكد سلمية نواياها وأغراضها النووية، إلاّ أن جوهر الصراع الذي ترعاه واشنطن وتغذّيه ضد إرادة طهران النووية اليوم هو في الواقع يتمحور حول ما اذا كان من حق الحكومة الإسلامية الإيرانية أن تصبح دولة نووية مستقلة معترفاً بها في نادي الدول النووية، سلمية كانت نواياها أو حربية؟
تستعد نحو 25 دولة عضواً في مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمناقشة الملف النووي الإيراني هذه الأيام للمرة الثالثة خلال نحو سنة، على خلفية مثل هذه التوجسات.
حكومة الولايات المتحدة الأميركية التي تخوض حرباً دبلوماسية وإعلامية ضروساً ضد طهران في هذا السياق وهي عضو أساسي في هذا المجلس الدولي، تسعى جاهدة إلى الدفع بهذا الملف إلى «السيناريو» العراقي عن طريق التهديد بنقله إلى مجلس الأمن الدولي في اجتماع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل إن لم تفلح ولن تفلح على ما يبدو في الاجتماع الراهن، يتعاطف معها أربعة أعضاء بنسب متفاوتة هي بترتيب قوة التعاطف كندا واستراليا ونيوزيلندا واليابان، هذا فيما تلعب دولة الكيان الإسرائيلي المدججة بالقنابل النووية والمخزون الهائل من أسلحة الدمار الشامل دور المحرّض الاساسي في لعبة إثارة «الهلع النووي» الإيراني!
في المقابل تقف أوروبا بدولها الثلاث الاساسية فرنسا وألمانيا وبريطانيا حائرة بين نفعيتها الاقتصادية وانتهازيتها السياسية، واضعة قدماً لها في طهران والقدم الأخرى في واشنطن، وعينها ترقب اشارات تل ابيب بشكل دائم في سعي حثيث ودؤوب من جانبها إلى الجمع بين كل تلك الأبعاد من دون أن تنسى «السيناريو» العراقي الذي ابتلعته بمرارة بسبب نفاقها وانتهازيتها، ما يجعلها في حال «انعدام وزن» وقلق في الهوية، ولاسيما في ظل الدور البريطاني «المدسوس» في جعبتها الدبلوماسية كواقع لا قدرة لها على الفرار أو التحرر منه لصالح أميركا، الصديق اللدود لأوروبا القديمة.
تبقى إيران ومعها عدد لا بأس به من الاصدقاء وفي طليعتهم القوة الاقتصادية الصاعدة والعضو الدائم من دول العالم الثالث في مجلس الأمن الدولي أي الصين الشعبية، بالاضافة إلى روسيا الشريك الاقتصادي لها في هذا الملف بالتحديد، تكافح في الواقع من أجل الاعتراف بها كقوة نووية سلمية مستقلة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الاكتفاء الذاتي. وهنا بيت القصيد في كل ما يجري من «مساومات» أو «تسويات» أو يحاك من «مؤامرات» من حولها أو ضدها.
بمعنى أن إيران اليوم وبعد 25 سنة من الكفاح العلمي والعملي والتجاري والسياسي والدبلوماسي، قد استطاعت عملياً أن تحصل على مرتبة من «القوة» النووية لم تعد فيها بحاجة ماسة إلى جهد كبير حتى تعلن استقلالها «النووي» عن النادي النووي الرسمي الذي يحاول احتكار هذه الطاقة سلماً وحرباً.
فإيران تمتلك مادة اليورانيوم الخام بوفرة كافية، كما تمتلك قدرات استخراجها والتعامل معها بصورة متوسطة، كما بدأت ترتقي سلم معارف التخصيب وصناعة أجهزة الطرد المركزي اللازمة لصناعة الوقود النووي اللازم لتشغيل منشآتها النووية.
طبعاً هذا لا يعني بعد، أن إيران لم تعد بحاجة إلى أحد من خارج حدودها، بل يعني أنها باتت قادرة على «المساومة» وعرض المبادرة بعقد «تسويات» مع الأوروبي الذي هو بحاجة إلى سوق طهران بقدر ما هو «خائف» من استقلاليتها.
من هنا نستطيع أن نفهم معنى التحدّي الذي أثاره رئيس لجنة الشئون الخارجية والأمن القومي الإيراني في البرلمان علاء الدين بروجردي عندما صرّح قبل أيام بأن طهران «باتت عضواً رسمياً في النادي النووي الدولي لتخصيب اليورانيوم، شاءت بقية الأعضاء أم لم تشأ»، ليخرج المستشار الألماني شرودر بعد يومين فقط من تصريح المسئول الإيراني ليقول: «لدينا وعود من الرئيس بوتين، بأنه لا مكان لدولة نووية جديدة اسمها إيران».
أعرف أن شرودر ربما قصد هنا الجانب العسكري من الملف. وهذا هو ديدن الغربيين عموماً إذ يسعون بقوة إلى اثارة اللغط الدائم بشأن الملف النووي الإيراني واعطاء الانطباع الدائم بأن أي «نووي» خارج عن ارادتهم إنما هو نووي عسكري «خبيث». وكل نووي تحت سيطرتهم انما هو «حميد» حتى لو كان عسكريا!
الوقت يتضاءل أمام كلٍّ من واشنطن وطهران لعقد «تسوية» ما مرضية للطرفين. والسباق الدبلوماسي والإعلامي بينهما مرشح للاشتداد أكثر فأكثر كلما اقتربنا من استحقاقات الانتخابات الأميركية وتداعياتها، ولاسيما اذا ما انتخب بوش مجدداً. ومهما تحدث زعيم الديمقراطيين عن «صفقة» ما مع طهران فإن الملف النووي الإيراني بات جزءاً لا يتجزأ من «الكرامة الوطنية» الإيرانية باجماع القوى السياسية الإيرانية، لن يستطيع أو يجرؤ أحد على التفريط به، الأمر الذي جعل حتى الرئيس المعتدل محمد خاتمي يصرّح أخيراً بأن «على الأمة أن تستعد لدفع ثمن استقلالها في هذا المجال» اذا ما أصر الجانب الآخر على خوض معركة كسر العظم حتى النهاية.
صحيح أن حاكم طهران الإسلامية أياً كان ليس «ذو الفقار علي بوتو» ولا صدام حسين، وأن إيران ليست باكستان ولا العراق، لكن حاكم واشنطن أياً كان لا يفكر إلاّ بكونه شرطي العالم المفوض لحماية دولة «إسرائيل» بشكل خاص على الدوام
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 737 - السبت 11 سبتمبر 2004م الموافق 26 رجب 1425هـ