كثيراً ما يتردد المرء (خصوصاً في مجتمع تفوح فيه رائحة الطائفية الدينية /المذهبية ويطغى عليه التعصب الأعمى من الجانبين، في أية قضية محورية مهمة وعامة) في سرد مواقف أو طرح رؤى قد تتفق مع هذا الطرف أو ذاك، والكتابة عن هذا الموقف لإنسان ثائر في وجه الظلم والطغيان أو جماعة تقاوم المحتل وأذنابه وذبابه التي تزن على رهن ثروات البلاد وخيراته للأجنبي من أجل تحقيق مكاسب دنيوية، ترفّع عنها السيد مقتدى الصدر كما ترفع عنها الشيخ مهدي الخالصي في القرن الماضي. وحديثاً جرى بيني وبين الكاتب حسن الصحاف لقاء فكري سأحاول طرحه في هذه المساحة، على رغم أن بضاعتي مزجاة في هذا الجانب.
وأبدأ بمقاومة الاحتلال وموقف الشاب المسلم المقاوم في النجف، صاحب الرداء الأبيض والعباءة المهترئة شكلاً، والمرصّع مضمونها بجواهر الصدر الأول. وبذل الدم الغالي، وليس الماء، في سبيل الأوطان يجبرنا أن نكون واقعيين (وأخلاقيين) حين طرح الرأي في هذه الغمة التي حلت بالعراقيين، إذ المانشيت السلفي الحكيم «العدل مع من نحب ومن لا نحب» الذي سطره شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي كثيراً ما أجد نفسي محتاجاً إلى ترسيخ هذا المبدأ مع الكثير من الإخوة والأصدقاء، والتخلق بهذا المبدأ من دون سواه يكفينا من تراث ابن تيمية المختلف حوله وعليه في الكثير من المواقف الأخرى.
ذكرني الأخ الصحاف بالكثير من الانتقادات التي واجهتها والتهم الملقاة عليّ جزافاً، والتي أتفكر فيها ليلاً ونهاراً، ليس حيرة في الإجابة والله بل حزناً على حال المتسائلين. هذه التهم الرائجة في هذا المجتمع المطأفن سياسياً المتآلف اجتماعياً.
ومع إيماني المطلق بأن الخلافات المذهبية لم تك لتصل إلى الحد الذي وصلت إليه لولا الكثير من الأعمال القذرة التي لا تمت إلى الدين بصلة، وتم النفخ في هذا الخلاف لصالح السلطات السياسية الحاكمة، وتمت إضافة بعض «البهارات الاجتماعية» من عادات وتقاليد، وهكذا انشق الصف الذي كان من المفترض ألا ينشق، فلا عصبية قبلية استطاعت الامساك بزمامه ولا عصبية مناطقية احتوته، فتجد في القبيلة الواحدة فخذاً سنياً والآخر شيعياً، وقرية بها سنة وشيعة وهكذا... ذلك أن السلطات الحاكمة في الدول الإسلامية الغابرة كانت إما تميل لهذا المذهب أو ذاك.
وعوداً على بدء، في شأن المقاومة، منذ متى ومقاومة المحتل مقصورة على طائفة دون أخرى؟ وهل المنافحة والدفاع عن حقوق الناس مقصورة على طائفة دون أخرى؟ أو على دين دون غيره؟
لا تعجزني الإجابة عن الكثير من الأسئلة الصبيانية التي تفوح روائحها الطائفية النتنة، والمطأفنة حتى النخاع، وأجيب عليها متكئاً على عصا الصدق والشفافية الباطنة والظاهرة القلبية واللسانية، ذلك أن المرء مؤتمن حقيقةً على ما يطرحه ويؤمن به من أفكار ومبادئ وقيم؛ فلا مداهنة ولا تقية، بل وحتى تلك التقية المظلومة، من قال انها مقصورة على الشيعة وحدهم؟ أليست هي لعموم المسلمين ويؤيدها العقل والمنطق في حال الاضطرار ولدرء الخطر عن النفس أو المال أو العرض... ولكن التوسع فيها وتعميمها هو ما لا أعتقد بصحته، وهي ليست مقصورة على الأفراد؛ بل تتعداهم إلى دولٍ وأنظمةٍ بأكملها تمارس التقية، وأسألوا أركان البيت الأبيض عن تقية الحكام العرب!
لا يمكن لأي عاقل من أية طائفة كان ولأي مذهب ينتمي أن ينكر على المقاومة أو يصف رموزها وأبطالها العراقيين أو اللبنانيين بالمداهنة وإظهار ما لا يبطنون، إذ كيف بمن يفني حياته ويقدم دمه في سبيل وطنه أن يمارس مثل هذه المداهنة؟ وهل هناك أغلى من الحياة التي يعرضها الإنسان المقاوم للموت؟ ولكن البعض لو قطع له المقاومون جسدهم إرباً إرباً وقدّموها على طبقٍ من ذهب لا يصدق صدقهم ولا يتيقن من إيمانهم! فماذا يقدمون أغلى من هذا؟
إذا كنا ننتقد «الياور» و«علاوي» فلننظر لأي دين وأي مذهب ينتمون، ففي كل مذهب وملة هناك من يبرر الظلم الاجتماعي والطغيان والاحتلال، وإلاّ ماذا نسمي رضوخ دول الجوار بشتى صنوف الحكم فيها لإرادة المحتل ومداهنته؟!
حسن الصحاف شكراً لك. وفي انتظار المزيد من هذا المداد النقي، ومن العزف على أوتار الدين الواحد والوطن الواحد والمصالح المشتركة... عل ذلك يطهر القلوب وينقي الأبدان من أدران الطائفية والمناطقية والعرقية والقبلية والفئوية الضيقة... ويوفّق بين رؤى أبناء الوطن الواحد والدين الواحد وأصحاب المصالح المشتركة. وأخيراً أقول كما قال محمد صادق الحسيني في رائعة من روائعه: «... لقد خذلوك يا مقتدى كما خذلوا جدك...»
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 736 - الجمعة 10 سبتمبر 2004م الموافق 25 رجب 1425هـ