في المبنى المطل على موقع مركز التجارة العالمي الذي انهار قبل ثلاث سنوات وأمام الحائط الزجاجي العريض الذي خصص في الطابق الثاني ليوفر رؤية شاملة للزوار الراغبين في مشاهدة المكان، يعم الهدوء ويتحدث الزوار والسياح بصوت خفيض. ويكاد الجميع، على اختلاف منابعهم وأعراقهم، يأتون بسلوك متشابه، فما أن يغادروا السلم الكهربائي الذي يأخذهم الى المكان حتى يسارعون ليمسكوا بالقصبة المعدنية على امتداد عرض الحائط الزجاجي مطلقين تعابير بلغات مختلفة، وتتسع الحدقات وهي تدقق في الأساسات الاسمنتية التي شيدت في المكان تمهيداً لاعادة إعماره، وتغادر الزمان الى الماضي لتقف عند 11/9 قبل ثلاث سنوات فيستحيل الهدوء والسكينة الى ضجيجٍ مع زحف مشاهد اصطدام الطائرتين بالمبنيين والاحتراق وتناثر الأوراق والأرواح من العلو الشاهق وتلبد السماء بالدخان الاسود وتصاعد الأتربة... ثم يأتي السقوط الكبير الذي سقطت معه ثوابت كثيرة في تاريخ الأمن الأميركي.
معظم الزوار يهزون رؤوسهم بعد لحظات، وأحياناً بعد دقائق كمن يستيقظ من كابوس. تقول الين دوبوي من نيو ميكسيكو: «مازلت أتذكر ملابسي التي كنت أرتديها وأشم رائحة الأشياء تحترق، انه يوم فظيع لا يمكن أن ننساه، العالم لم يعد كما كان بعد 11/9».
ساعة و44 دقيقة من الزمان فصلت اصدام الطائرة الأولى بالبرج الأول وانهيار البرجين غيرت وجه العالم فيما بعد، فوقع سقوط البرجين سُمع في العالم بأكمله. أما في الموقع نفسه الذي تصل مساحته الى 16 فداناً، والذي تم تسويره بأسلاك معدنية، فهناك الكثيرون ممسكون بالأسلاك ومنكسوا رؤوسهم بحزنٍ واضح، وكأن عزيزاً لهم غادر الحياة في هذا الموقع للتو. أحد العاملين في المطاعم السريعة في المبنى المجاور قال: «وجوه كثيرة تتكرر مشاهدتها في المكان نفسه».
كلمة «لماذا» على أطراف ألسنتهم مازالت تعترض النسيان من أن يبتلع الحزن المتولد من الصدمة.
يقول نائب مدير التحرير بصحيفة «وول ستريت جورنال»، ستيف أدلر، التي تقع مكاتبها على مقربة من «جراوند زيرو» كما يسمى موقع البرجين الآن: «أخليت المباني لأن المنطقة بأكملها كانت ملوثة بالغبار الأسود والأتربة، ولم نتمكن من العودة الا بعد نحو عام كامل من الحادث».
الشكوك الكبيرة والموساد
يكرر الأميركان الرقمين 11/9 في مناسبات كثيرة، فهو يبدو وكأنه استحدث حداً فاصلاً بين الأمان وعدم الأمان، بين الثوابت وحال عدم اليقين. والمقلق في الأمر هو استمراريته في ظل عدم تأكيد تحميل المسئولية الى جهة أو أشخاص معينين، فعلى رغم التصاق اسم أسامة بن لادن بجريمة تفجير البرجين، وما تلاه من اعلان أميركا أن «الارهاب» هو العدو الأول الذي قاد الى تفجير البرجين، فإن سيناريوهات أخرى مازالت واردة لم تلغ تماماً. فنظرية المسرحية أو المؤامرة من الداخل ليست رائجة فقط في الدول التي لا تربطها وأميركا علاقات حميمة، وانما هي سيناريو مطروح في أميركا نفسها. فالبعض يرى أن خسارة 3000 شخص وبرجين والازعاج المؤقت الذي قد تستاء منه المؤسسات العاملة في البرجين والتي لا يُشك في قدرتها على استعادة قاعدة معلوماتها لاحقاً بسبب تطور أنظمتها التخزينية وخسائر اضافية لقطاعات المطاعم والفنادق، يبدو ثمناً معقولاً بالنسبة إلى المحافظين الجدد لتحقيق خطة من عدة مراحل، تبدأ بإشاعة الذعر وزعزعة الأمن، ثم تقديم الارهاب وتعريفه بأنه العدو الأول، وتحديد مواقعه بالقرب من الهدف النهائي المزدوج للخطة، وهما الوصول الى مخزون النفط العراقي ورعاية أمن «اسرائيل».
يبدو الثمن معقولاً إذاً، فأميركا خسرت في فيتنام 60 ألف شخص.
وبعد اصلاح الخسائر المباشرة وغير المباشرة يضاف الى المتأتي من «المسرحية» تنشيط الاقتصاد وتحفيز صناعة الحرب، عدا الاثراء الذي نعمت به شركات ربط «Center of Public Integrity» للتقارير الصحافية الاستقصائية في كتاب «The buying Of The President 4002» لتشارلز لويس، أسماءها بتمويل حملة «بوش - تشيني» الانتخابية.
ويقول جيسي لو، وهو أميركي عادي مهتم بالسياسة كثيراً ويحتفظ في مخزن منزله بآلاف الصفحات لتقارير وتحليلات عن 11/9 «ربما يستند هذا السيناريو الى معلومات من الانترنت ولكنها ليست بعيدة عن المنطق. انها منطقية أكثر من سيناريو أسامة بن لادن». ويسترسل لو مضيفاً: «هذا السيناريو يدعمه بُعد سيناريو تفجير البنتاجون عن المنطق تماماً، فأي تفجير هذا لا يتبقى من أداة التفجير فيه لا قطعة معدن ولا مقعد من الطائرة؟ كما أنه لا يمكنني أن أصدّق أن تنطلق طائرة على هذا المستوى المنخفض باتجاه البنتاجون من دون أن تعترضها أجهزة الوزارة الدفاعية، الأمر يبدو لي أنه لا يتعدى كونه مسرحية».
ويتداخل مع هذا السيناريو طرح «الموساد» كمشارك في العملية، الطرح الذي لم يحصل على أي تجاوب رسمي فيه وظل محلقاً في شكل إشاعة حتى اليوم. ولايزال الاستفسار قائماً عن سبب عدم نشر صحيفة «وول ستريت جورنال» للمقال الذي كتبه بعد التفجيرات الصحافي الراحل دانييل بيرل الذي قتل في باكستان، وكان يشرح فيه مبررات المروّجين لهذه الاشاعة على رغم حيادية الصحافي المعروفة.
وسيناريو دعم وتقوية «اسرائيل» واضعاف القدرات في المنطقة المحيطة بها ليس بعيداً عن أولويات المحافظين الجدد الذي يقال عنهم دائماً «انهم لم يحصلوا قط على زعيمٍ سهل تمرير ما يريدون من خلاله مثل بوش».
وحرب العراق التي لم يثبت حتى الآن صحة مبررها تبدو مثلاً معقولاً، وفي هذا الصدد يرد الصحافي الجمهوري المتعصب جون دندل على سؤال «الوسط» عما اذا كان يرى الحرب على العراق هي حرب على الارهاب وهل هي مبررة، بقوله: «نعم، انها مبررة... لأن صدام حسين شخص مشاغب في منطقة الشرق الأوسط ومسبب للقلق لـ «اسرائيل»، علينا حماية «اسرائيل» وأمنها». ولايعلق دندل على عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل التي اتخذ قرار الحرب من أجل تنظيف العراق منها.
سيناريو بن لادن
أما المؤمنون بسيناريو «ارهاب» أسامة بن لادن فهم منقسمون بين معتقدين أن السبب هو شرٌ موجّهٌ الى أميركا بسبب تفوقها وريادتها للعالم، فهو محاولة للنيل من هذا التفوق الذي يمنحها قدرات نشر مفاهيمها السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط والعالم الاسلامي. وهؤلاء هم الذي نجح 11/9 في زرع الرعب في قلوبهم، ويقفون وراء بوش بكل ثقلهم في «محاربته للارهاب»، من دون توجيه سؤال الى الأدوات التي ستستخدم وبرصيد مفتوح من أموال «دافعي الضرائب» لأن الأمن قبل الاقتصاد بالنسبة إليهم. وفي مقال نشر في صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكال» نهاية الشهر الماضي يذكر أن مسوحات كثيرة للرأي أظهرت أن الحرب في العراق والارهاب يساوي الاقتصاد في اهتمام الناخبين. ولم يعد ارتفاع من هم دون خط الفقر بحوالي 1,5 مليون شخص حتى أصبح هناك شخص واحد فقير بين كل (....).
ويتقبل الكثيرون الاجراءات الأمنية على رغم أنه لا يمكن أن يختلف اثنان على المبالغة في هذه الاجراءات وعدم منطقيتها في أحيان كثيرة، بالاضافة الى عدم اتساقها مع أمان واحترام الخصوصية، ففي المطارات مثلاً يطلب من المسافرين نزع أحذيتهم ومجوهراتهم. والأغرب أن الأميركان تخلوا عن حقوقهم في الحفاظ على ممتلكاتهم فلم يعترضوا على قرار ابقاء الأمتعة دون اقفال، وهو قرار فيه مبالغة كبيرة، اذ تمرّ الحقائب في أجهزة التفتيش وتفتش يدوياً، وبعدها يطلب أن تبقى دون أقفال وإلاّ كسرت هذه الأقفال! وهذا الاجراء بالاضافة الى كونه اعتداء على خصوصية الأفراد، الا أنه ينطوي على مخاطرة كبيرة، اذ بالامكان أن توضع داخل الحقائب أية محظورات (وفق معايير أميركا الحالية) ويتورط صاحبها بناء على ذلك.
ويرى الأميركي ايريك بيدرمان، وهو ديمقراطي من «سانتا في»، في الاجراءات الأمنية مبالغة كبيرة :«للأسف هناك الكثير من الأميركان لا يعون تماماً ما يجري حولهم ويعتبرون ما يسمعونه من الاعلام من المسلمات، ولذلك لا مانع لديهم من انفاق الضرائب التي يدفعونها على الحرب في العراق، وان كانت على حساب برامج تطويرية للخدمات الأساسية المباشرة كالتعليم والصحة».
وتؤكد رأيه الناشطة السياسية كرستين كوردارو من سان فرانسيسكو: «اذا كان الناس يستقون معلوماتهم من (سي ان ان) أو من (فوكس)، فهم لابد أن يجدوا الحرب مبررة، لأن الأمة تمر بوضع أمني «صعب جداً!»، بحسب ما تبثه من أخبار.
أيريك وكرستين وملايين غيرهم لا يؤمنون بسيناريو «المسرحية»، ولكنهم يرون أن حكومة بوش- تشيني دفعت العالم الى كره أميركا بسبب تدخلها في شئون دول أخرى. ويرون أن 11/9 هو أحد أسباب الغضب الخارجي على أميركا، وهم معرضون للحرب ويرون أن حكومة بوش - تشيني قادت البلاد الى حرب خاسرة بمقاييس كثيرة وغير مبررة. وهؤلاء هم الفئة الثانية الذين يرون أن 11/9 هو نتيجة لسياسات أميركا الخارجية الخاطئة.
وبين الفئتين تقع الشريحة العظمى من الأميركان الذين لم يهتموا قط لما يحدث خارج أميركا، ولم يهتموا قط أن يختاروا الرئيس. هؤلاء يشكلون نحو 60 في المئة من الشعب الأميركي الذي لم يكترث يوماً أن ينتخب رئيسه. هؤلاء فوجئوا بـ 11/9 ويقول عنهم ممثل منظمة «موف أون» ادوارد سوليفان انهم عندما شاهدوا فيلم (فهرنهايت 11/9) لمايكل مور قالوا: «اذاً هو النفط الذي ذهبت أميركا من أجله إلى العراق وليس أسلحة الدمار الشامل». وقالوا: «أكان الأمر بهذا السوء». وبحسب سولفان الذي تسعى منظمته الى التوعية بأهمية الانتخاب فان الكثيرين أعادوا النظر في انتمائهم الحزبي وتحولوا من الجمهوري الى الديمقراطي، ومنهم والده، كما ان الكثيرين قرّروا التخلي عن سلبيتهم تجاه الانتخاب واختيار الرئيس.
فيلم مور، وعلى رغم الانتقادات التي وجهت الى بساطة تلبيته مقاييس الأفلام الوثائقية أو العمل الاستقصائي كما يطلق عليه، فإن الكثيرين في أميركا يدينون لمور ويعتبرون الفيلم «فاتحاً للعيون»، تماماً كما هي تفجيرات برجي مركز التجارة العالمي التي انتبه بعدها الأميركان الى أن خارج أميركا هناك أمم أيضاً تريد أن تعيش في استقلال وأمان، وعندما يُخرِجها تدخل أميركا في شئونها عن درجة الاحتمال فرد الفعل لن يكون بالضرورة دبلوماسياً وحضارياً كما تشتهي أميركا. وبالنسبة إلى المتضرّر قد لا يوجد ما يمنع من أن يكون الرد دموياً ومدمراً، تماماً كما تفعل «اسرائيل» في فلسطين وكما تفعل أميركا في العراق
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 736 - الجمعة 10 سبتمبر 2004م الموافق 25 رجب 1425هـ