على رغم الكشف عن جاسوس إسرائيلي كان يشغل منصباً بارزاً بوزارة الدفاع الأميركية تبين أنه كان ينقل معلومات باستمرار إلى المنظمة الأميركية اليهودية AIPAC النشطة بمدينة واشنطن التي تعتبر الذراع الطويلة لـ «إسرائيل» في المدينة التي يجري فيها صنع القرارات السياسية، والخوف أن تؤثر عملية الكشف عن الجاسوس سلباً على علاقات إدارة بوش مع «إسرائيل»، فإن المسئولين في واشنطن وفي تل أبيب على وجه الخصوص، يحاولون التستر على هذه القضية مغبة عدم ظهور المزيد من المعلومات التي من شأنها أن تحرج إدارة الرئيس جورج بوش أكثر من حكومة أرييل شارون. وخصوصاً أن الجاسوس الإسرائيلي كان يلعب دوراً مؤثراً في تمرير تحليلات ومقترحات للقسم الذي أنشئ خصيصاً في البنتاغون لجمع معلومات عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق وتقديم تقارير إلى الإدارة الأميركية.
هذا والمعروف أن هذا القسم كان مطبخاً للشائعات. كما يستدل من وجود جاسوس إسرائيلي أن الإسرائيليين قاموا بدور بارز في التلاعب بالمعلومات وتضخيمها مثلما فعل رئيس المؤتمر الوطني العراقي أحمد جلبي، الذي ينبذه الأميركيون منذ الكشف عن دوره في تزويد إيران بمعلومات سرية عن خطط واشنطن في المنطقة وأنها تتجسس على أجهزة الهاتف الخاصة بكبار المسئولين الإيرانيين.
حملة انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة وحاجة بوش لتأييد الناخبين اليهود تحول دون تصعيد الخلاف مع تل أبيب. وكي تقوم إسرائيل بنفسها بتمييع القضية فإنها تسعى منذ أسابيع إلى تقمّص دور الضحية والحديث عن التهديدات التي تواجهها من قبل إيران. وتستغل تل أبيب الظروف الحالية إذ هناك خلاف بين دول الاتحاد الأوروبي والوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا من جهة وإيران من جهة أخرى بسبب شكوك الغرب في أن إيران تعمل سراً في برنامج نووي. وتقول «إسرائيل» إن إيران ستتمكن في العام 2007 على الأرجح من الحصول على القنبلة الذرية إذا لم يجر وقف العمل بهذا البرنامج على الفور.
ليست القنبلة الذرية الإيرانية فحسب هي من تشغل بال الإسرائيليين، فصحيفة «هآرتس» تحدثت في تقرير جاء فيه أن إيران نجحت في تطوير رأس نووي لصاروخ أرض - أرض يحمل اسم شهاب 3. وليست هذه أول مرة تعرب فيها «إسرائيل» عن مخاوفها من التعرض لهجوم بصواريخ شهاب. وقد سعت «إسرائيل» منذ فترة إلى تجنيد إيرانيين في الخارج، وكذلك أكراد في شمال العراق للحصول على معلومات بشأن برنامج التسلح الإيراني. فبعد نهاية صدام حسين اعترفت «إسرائيل» أنها تخلصت من نظام كان يهدد أمنها. ومنذ ذلك الوقت بدأت «إسرائيل» تحرض واشنطن والأوروبيين على سورية وإيران، فتقول تل أبيب إنها لأول مرة تشعر بتهديد حقيقي صادر عن إيران. ولا أحد في واشنطن وأوروبا يعتقد حقيقة أن سورية تعمل في برنامج إنتاج أسلحة الدمار الشامل، لكن هناك شكوك بأن إيران تعمل بذلك سراً.
وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر الذي وصفه شارون بأنه «أفضل صديق ألماني لـ (إسرائيل)»، حذّر في زيارته الأخيرة لـ «إسرائيل» من مغبة القيام بمغامرة عسكرية ضد مواقع في إيران، لأن هذا سيشعل نار نزاع خطير لا أحد يعرف عقباه. وتعمل ألمانيا بالتنسيق مع فرنسا وبريطانيا من أجل دفع إيران إلى الكف عن برنامجها النووي السري، وتنفيذ بنود المعاهدة الملحقة للمعاهدة الدولية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل التي وقعت عليها إيران بعد أن هددت واشنطن بنقل النزاع مع إيران إلى مجلس الأمن الدولي. وتشير بيانات المخابرات الألمانية إلى أن إيران وزعت برنامجها النووي على عدد من المناطق كي يصعب على «إسرائيل» ضربها في وقت واحد.
وتشترط إيران دفع «إسرائيل»، الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلى توقيع المعاهدة الدولية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. ولم يحصل مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي على موافقة شارون بأن يجري إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. وتتذرع إسرائيل كما في السابق بالحجة القائلة: «إسرائيل دولة صغيرة محاطة بالأعداء من كل جانب، ولا يمكن أن تسمح بتكرار الهولوكوست». وترفض التنازل عن ترسانتها النووية، وتطالب واشنطن وأوروبا بالضغط على إيران كي تنفذ تعهداتها تجاه معاهدة الحد من انتشار الأسلحة.
أوضح عضو الكنيست ورئيس لجنة السياستين الخارجية والأمنية يوفال شتاينيتز في تصريحات نشرتها صحيفة «هآرتس» أنه حين اطلع على الصور الجديدة لصاروخ شهاب 3 لاحظ أنه أصبح أقل وزناً ومن السهل نقله بواسطة عربة. ولزيادة الضغط على الحكومات الأوروبية وحلف الأطلسي تروّج «إسرائيل» أن هذا الصاروخ يبلغ مداه حاليا 1300 كم، أي بوسعه ضرب أهداف في تركيا (العضو في حلف الأطلسي). أما صاروخ شهاب 4 فبوسعه ضرب أهداف على بعد ألفي كم.
وكتبت الصحيفة الإسرائيلية: «بعد الاطلاع على صور شهاب 4 التي نشرتها الصحف الإيرانية يستدل أنه بوسع رأس الصاروخ حمل أسلحة كيماوية أو قنبلة ذرية». وقال شتاينيتز: «خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب تعود العالم كيف يمكن مواجهة تهديد دول مستبدة وردعها منعاً لاستخدامها أسلحتها النووية، لكن في الحالة الإيرانية ليس بالوسع ردع إيران أو تهديدها لأن إيديولوجيتها الإسلامية ترى أن الحياة بعد الموت أكثر أهمية من الحياة الحالية على الأرض، وأن الكثيرين يصبون إلى الشهادة»، معتبراً أن النظام الإيراني يتصرف بصورة غير مسئولة حين يحرض مليون إيراني على تقديم أرواحهم طلبا للشهادة!
لكن أوروبا ترى إيران اليوم بعيون أخرى، مختلفة عما يراها به شتاينيتز. المجتمع الإيراني يخضع إلى تحول، لكن برلين تعتقد أن إيران تواقة للحصول على القنبلة النووية لتحقق توازناً استراتيجياً يضعها على كفة واحدة مع خصميها الرئيسيين في المنطقة: تركيا و«إسرائيل». وتستعين الأخيرة في الترويج لحججها بكل ما صدر حتى اليوم من تصريحات معادية لها على ألسنة مسئولين إيرانيين، وتبدأ بأن الإسلام نفسه يشير إلى أن اليهود أعداء للأمة الإسلامية.
ثم أن هناك نظريات متعددة منتشرة في الشرق الأوسط تشير إلى مسئولية «إسرائيل» عن هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن كي تؤثر على سياسات واشنطن. من جانبها لا تخفي إيران حقدها على الدولة العبرية. وحين اختبرت إيران صاروخ شهاب 3 قبل عام هتف متظاهرون: سنصب النار على «إسرائيل».
المعلومات الجديدة بشأن تطوير صاروخ شهاب 3 دفعت شارون إلى إبلاغ الرئيس بوش أنه بحسب معلوماته خطت إيران خطوة كبيرة تجاه التسلح النووي وبصورة تزيد عما تعتقده أجهزة الاستخبارات الأميركية. وفي زيارته الأخيرة لواشنطن صحب شارون معه جنرالاً إسرائيلياً أطلع بوش على ملف ضخم يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني لإقناع الأخير بضرورة التحرك على المستوى الدولي للضغط على حكومة طهران. والكشف عن الجاسوس الإسرائيلي في وزارة الدفاع الأميركية وضع واشنطن في مأزق.
وترمي محاولات التعتيم على القضية خدمة الحملة الانتخابية لبوش، ومنعاً للكشف عن عمليات تآمر أميركية إسرائيلية في حرب العراق وضد إيران. لكن واشنطن ترغب أيضاً بإقناع «إسرائيل» بعدم المغامرة بضربة عسكرية ضد منشآت نووية إيرانية. وفي تحليل وضعه المستشار الأسبق للبيت الأبيض زبجينو بريجينسكي في شهر مايو/ أيار الماضي، ذكرا أن هجوم «إسرائيل» على إيران يلحق ضرراً مباشراً بمصالح الولايات المتحدة، لأن إسرائيل ستستخدم طريق عبور (العراق) الذي يخضع لرقابة القوات الأميركية، ما سيوحي بأن واشنطن تآمرت مع «إسرائيل» على ضرب إيران.
كما حذر بريجينسكي من نتائج وخيمة لضربة عسكرية إسرائيلية ضد إيران على الوجود العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، إذ ستصبح حياة 138 ألف جندي أميركي في العراق وعشرة آلاف منهم في أفغانستان في خطر لأن إيران سترد بضربات انتقامية ضد «إسرائيل» وحليفها الأميركي
العدد 735 - الخميس 09 سبتمبر 2004م الموافق 24 رجب 1425هـ