القسوة، وإراقة الدماء، وتكسير الجماجم عنف مجاني، يفترض التاريخ أن الجميع مشتركون فيه، لكن ملوك الدنيا وسلاطينها أناس مختلفون جداً، آثروا البقاء في السلطة على قتل الآلاف وإذلال الملايين بحثاً عن المجد وإرضاء الذات.
«وانحنى البحر له» وصف أطلقه أحد جنود الاسكندر الأكبر على حرب الأخير الشهيرة ضد الأسطول الفارسي الضخم في مياه البحر المتوسط. خلف الاسكندر المقدوني أباه فليبس وهو ابن العشرين عاماً، وحد جيوش الجنوب الأوروبي بعد دخوله اسبرطة وأثينا وطروادة - التي يعشق أبطالها ويهيم بقصة خيلها المشهور - وقطع بهم أراضي الترك، وحطم الأسطول الفارسي في مياه المتوسط، ولما رفع عينيه رأى أراضي الهلال الخصيب وما وراءه من أطراف العالم الآسيوي الشاسع، وأيقن أنه سيكون في السنين العشر المقبلة بطل هذا المعترك الخطير على جماجم أربعين مليوناً من السكان.
إن طموحات الاسكندر الأكبر لم تكن تنحصر ضمن حدود معينة لأنه اعتزم أن يدعي الألوهية، اذ لم يكن في معتقدات اليونان خط فاصل بين مركز الآلهة والبشر. وما زاد من شعوره بالعظمة، أنه لم يجد من يهزمه، اذ استولى على مصر غنيمة باردة، وعبر الفرات حتى وصل الهند عبر الخليج. وقطع رأس كل من عارضه، وحتى أصحاب أبيه لم يسلموا منه، إذ قام بصلبهم أمام مرأى ومسمع من الناس عندما حاولوا ثنيه عما يدور في خلده. وأشد من ذلك كله أنه أمر كل من يريد مقابلته أن يسجد أمامه، ويعفر جبينه في التراب، ويقبل قدمه حتى ينظر في أمره، لكن الاسكندر الأكبر لم يعمر طويلاً، ولم تترك له الأيام مجالاً في إراقة المزيد من الدماء، اذ وفاته المنية في بابل إثر مرض عضال ألمَّ به من فرط شربه الخمر وهو ابن الثالثة والثلاثين من عمره.
لم يختلف قيصر روما عن الاسكندر كثيراً في قسوته، فقد تسلم مقاليد الحكم في سنة 58 ق. م، وكانت حال روما تستدعي وجود قائد قدير أشرب قلبه حب وطنه وفي الوقت ذاته يكون عنيفاً لدرجة القسوة والجبروت لإخضاع كل من سولت له نفسه النيل من عظمة روما. وفعلاً برهن قيصر على مقدرة عظيمة ومهارة فائقة في قيادة الجيوش، اذ تمكن في غضون ثماني سنوات، من إضافة مملكة واسعة الى الامبراطورية الرومانية، فقد استطاع اقتحام فرنسا حتى الخليج الإنجليزي شرقا الى نهر الراين. كما يشار الى أن قيصر روما دخل مصر غازياً وهام بجمال ملكتها كليوباترا، لكن عشقه لها لم يمنعه من قتل المصريين وإحراق مكتبة الإسكندرية العظيمة سنة 45 ق. م.
ولم يكن سلاطين الشرق أقل عنفاً من سلاطين الغرب، ففي العام 1216م برز جنكيز خان، وتميز بالقوة والبطش. وينتسب خان الى القبائل المغولية التي لم تكن لها حضارة إنسانية بسبب حياتهم غير المستقرة، لكنهم كانوا فرساناً. أسلوب حياتهم مناسب لترتيبهم العسكري إذ أظهروا قدرة فائقة على الحركة السريعة واختراق مسافات شاسعة في زمن قياسي فريد. قاد جنكيز خان قواته وسط صحراء يصعب اختراقها، فعبر أواسط آسيا وأثار الرعب في قلوب الناس، وأصبحت قصص القتل والحرق والدمار تذاع في المدن قبل قدوم جيشه الذي استطاع إسقاط مدينة سمرقند خلال خمسة أيام فقط، وهي مدينة بنيت بحيث لا تسقط الا في سنين، لكن خان دمرها ودمر غيرها طارحاً شعاره «انا عقاب الرب»!
وهو الشعار (التفويض الإلهي) نفسه الذي طرحه الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور «أنا سلطان الله في أرضه». ولم يدر في خلد الأخير أن أحفاد جنكيز خان هم من سيدمرون مدينته الخالدة بغداد ويقضون على سلطانه الذي يدعيه.
وفي هذا الصدد يشير الكثير من المؤرخين الى أن المنصور كان من أعظم الخلفاء العباسيين شدة وبأساً وحزماً، إلا أن ما يؤخذ عليه ميله لسفك الدماء وغدره بمن أمنه، فقد غدر بابن هبيرة بعد أن أعطاه الأمان، وفتك بابن عمه عبدالله بن علي بعد أمنه، وغدر بأبي مسلم الخراساني الذي قامت الدولة العباسية على أكتافه.
وفي التاريخ الحديث برز لنا نابليون بونابرت، قائد عسكري فرنسي توج نفسه امبراطوراً لفرنسا، وقد مثل أشهر عبقرية عسكرية في زمنه، رسم وخطط لحملات عسكرية على درجة كبيرة من النجاح هيّأت له تكوين امبراطورية ضمت معظم غربي أوروبا ووسطها، ففي العام 1789م اجتاح مصر، وفي العام 1800 هزم النمسا، وفي العام 1810 ضم هولندا وأجزاء من الشمال الألماني، وفي يونيو/ حزيران من العام 1812 عبر نابليون بجيش تعداده 600 ألف جندي إلى أراضي روسيا، وهناك دمر موسكو، وأشعل النار فيها، لكنه ما ان عاد إلى وطنه حتى وجد أمامه حلفاً عدائياً من النمسا وانجلترا وروسيا وبروسيا، واستطاع هذا الحلف هزيمة نابليون في معركة «واترلو» الشهيرة، وعلى إثرها نفي نابليون إلى جزيرة هيلانة الموحشة ليقضي فيها أيامه الأخيرة، لكن الفرنسيين كانوا يعشقون هذا القائد، فلذلك عملوا على نقل جثمانه إلى كنيسة القبة بباريس لتكون شاهده على عنفوانه وقسوته.
وبحلول القرن العشرين يتساءل المؤرخون هل انتهى العنف بحلول أول قرنٍ متحضرٍ في التاريخ؟ كلا طبعاً، فهذا القرن بالتحديد همجي الطابع، إذ طور العنف ليصبح أكثر فتكا، فقد عرف العالم فيه ملوكاً ورؤساء لا يرضون بغير العنف بديلا، المعارضة لديهم تنتهي بالتعذيب أو الموت. برز أدولف هتلر في النصف الأول من القرن الماضي، حكم ألمانيا حكماً استبدادياً من العام 1933 إلى العام 1945، وأشعل نار الحرب العالمية الثانية العام 1939، هزمت قواته معظم أوروبا قبل أن تهزم العام 1945، وأشاع هتلر الرعب بشكل لم يفعله أحد في التاريخ.
كان هتلر يمتلك تصوراً واضحاً عما يريده، ويملك الجرأة على متابعته، وخلال وجوده في السجن العام 1923، بدأ يكتب كتابه «كفاحي»، وقد وضع في الكتاب آراءه الخاصة بمستقبل ألمانيا مع خطة لهزيمة أوروبا، لكن أهدافه لم تكن لها حدود، كما انه أساء تقدير ألمانيا وقدرتها، فجرّها إلى الهاوية، وكان العنف الذي بدأه في البداية ضد الآخرين، أدى به في النهاية إلى عنف ضد النفس، إذ أقدم في النهاية على الانتحار.
ومع مطلع القرن الجديد بدأ عنف الحكام والرؤساء أشد وأكثر وطأة، إذ قام على الاستغلال والاستعباد وإذلال العباد، كما حمل في طياته أيديولوجيات فاشلة، دأب أناس على تقبلها بمرارة، بل أصبح الناس شركاء في هذا العنف الأكثر قسوة والذي يختار ضحاياه بشكل عشوائي يثير الاشمئزاز.
ويبقى التساؤل ملحاً: ما ذنب الأبرار يذبحون ليبقى الآخرون في السلطة؟ والأجدر من ذلك: ألم يخلد التاريخ أهل العنف والتدمير؟ إنه التاريخ... فما أظلمه
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 735 - الخميس 09 سبتمبر 2004م الموافق 24 رجب 1425هـ