درج القول على ان الشرطة في خدمة الشعب، وقد تجسدت هذه المقولة المشهورة في ابلغ معانيها في يوم الاثنين يوم كشف المستور وتوالت الفضائح لولا ستر الستار عز وجل، تجسدت فيما قام به رجال الشرطة على رغم ما شاب هذه التضحية من قصور ليس في أداء المهمة وانما تجاه من قام بالمهمة وسنأتي على ذلك لاحقا، والحقيقة ان كل جهاز من اجهزة الدولة وضمن تنظيمها هو في خدمة الشعب طالما يدفع هذا الشعب كلفة تشغيله من رواتب وخلافه، إلا ان وزارة الاعلام قد جسدت عكس ذلك تماما وبأبلغ المعاني وأوضح الصور، لا نعرف في تاريخنا الوطني القديم والحديث ان يوم 23 اغسطس/ آب يصادف مناسبة وطنية تستحق الاحتفالية التي اقامتها الوزارة، نعرف بالطبع ان 14 أغسطس يوم استقلال البحرين عن الانتداب البريطاني البغيض وسقط فجاءة من الاخيرة الوطنية الرسمية!! احتفالية وبث اغان وطنية في يوم محنة ونكد، احوج ما يكون فيه المواطنون الى المعلومات والارشاد والتوجيه، التبصير لا التجهيل، هذا هو دور الاعلام، هذا هو الابداع والولاء، في يوم كهذا ترك المواطنون فريسة الشائعات المدمرة، وقد شاركت وزارة الاعلام في ذلك بامتياز وبلا حضارية في التصرف فالايحاء بعدم وجود المشكلة هي كارثة في حد ذاتها وتكريس للمشكلة، والتعامل بأسلوب حضاري مع الحوادث له ابلغ الاثر في تكريس الثقة واعطاء انطباع عن سمعة طيبة في الدول المتقدمة والمتحضرة يكون لهذا الحدث اهمية على الصعيدين الشعبي والرسمي وتقتنص الوسائل الاعلامية لتقديم افضل الخدمات للمواطنين واثبات وجودها في السبق والابداع، فتنتقل الى موقع الحدث في بيان واضح لما حدث، وتستضيف الخبراء والمختصين لشرح ما حدث وامكانات تجاوزه، والوقت المتوقع لذلك، وتتخذها فرصة لتثقيف المواطنين فيما يتعلق بانتاج الطاقة ومهمات الجنود المجهولين وراء انتاج الطاقة إذ تجدها مناسبة مواتية تجتذب الانتباه، وتستضيف خبراء الارصاد الجوية للوقوف على حالة الطقس وتقلباته خلال اليوم، تحاور اطباء الصحة العامة لتثقيف عموم الجمهور لتجنب ضربة الشمس أو الاجهاد الحراري، وما مظاهر الاجهاد الحراري، وكيفية التصرف عند حدوثه لاي شخص، وتستضيف خبراء التغذية - وما اكثرهم في البلاد لشرح التصرفات السليمة في التعامل مع الاغذية في المبردات للحفاظ عليها، وما مظاهر فسادها، وكيفية التصرف بها بعد عودة التيار الكهربائي والتعامل مع المشتريات من الاغذية المثلجة والمعلبة، وبين كل ذلك فواصل اخبارية تطلع المواطنين على ما تم في اتجاه إعادة التيار الكهربائي، واذا اعيد تدريجيا للمناطق تقوم باخبارهم بذلك حتى يتوجه الناس إلى اقاربهم في المناطق التي يتوافر فيها التيار الكهربائي.
فهناك الشيخ المريض، والعاجز المعذور، والطفل الرضيع الذين لا يتحملون قطعا ما يستطيع ان يتحمله الآخرون ووسائل الإعلام تخبر عن الشوارع غير المزدحمة، ومحطات التزود بالوقود التي تعمل وأقل ازدحاماً - ان وجدت - نصائح أمنية على الطريق وفي المنزل في السيارة... الخ. الاعلامي المحترف يعرف كيف يوظف ابداعاته عند الحدث في خدمة مهنته، اما من يقف عاجزاً أمام الحدث فعليه ان يتوارى، اثبات الولاء للقيادة وللوطن والمواطنين، لقدسية المهنة يجب ان يقترن بالعمل الصادق والمخلص، الدؤوب في وقت المحن والشدائد لخدمة الوطن والمواطنين، خدمة وليست تجهيلاً وتضليلاً، ولا تحتج علينا وزارة الاعلام بضرورة اعطاء الانطباع والايماءات الرسمية بعدم حدة المشكلة حفاظا على سمعة المملكة فالسمعة الطيبة وتوثيق الثقة فيما تقوم به من تصرفات حضارية تجاه اي حدث. لم يحتفل او يفرح احد من المواطنين بقطع التيار الكهربائي لما يزيد عن اربع عشرة ساعة في يوم قائظ ارتفعت فيه درجة الحرارة ونسبة الرطوبة. ان صح الخبر فإن الغاء وزارة الاعلام خطوة نحو العصرنة وعلى طريق التحضر لمواكبة التوجهات العالمية، وخطوة أخرى نحو اطلاق الابداعات الكامنة، وخطوة اخرى نحو الحقيقة من دون الشائعة، خطوة نحو مجتمع المعلومات والوعي والثقافة.
المحنة والشفافية
للشفافية سحر يفوق في قدراته السحرة والكهنة. ومن يحرصون على التعتيم هم صانعو التنطع بأنصاف الحقائق. فلن يستطيع احد ان يعمل ويقوم بدوره كاملا من دون الشفافية، والشفافية لا تأتي بالامر والمنع، فهي تراث وثقافة وممارسة تنتقل عبر الجينات المجتمعية، ولا نعتقد بأننا في هذا العالم تحديدا العربي غير قابلين للتوريث والتوارث حتى يصار إلى اعتبارها من المكتسبات المقدسة لا ينازعنا عليها احد. المهم ان يكون هناك استعداد للممارسة والتطبيق.
لن نتكلم كثيرا عن تاريخ اجهزتنا الحكومية في ممارسة التعتيم فالمحنة كشفت مدى الاستعداد للتعاطي مع هذه القضية الملحة بستر الحقائق واخفاء جوانب القصور، فقد ترك المواطنون فريسة للشائعات مع ان المعلومات كانت متوافرة لدى الجهات المختصة بدليل نزول رجال الشرطة لتنظيم المرور عند الاشارات الضوئية، وذلك للعلم المسبق بحجم الأزمة وفريسة لمن يقول لهم ان هناك عملا تخريبيا طال احدى المحطات الرئيسية لتوليد الكهرباء، وان الامر يحتاج إلى ايام وليست ساعات، وآخر يقول ان انفجاراً هائلاً حدث بأحدى المحطات سقط على اثره الكثير من الضحايا ومتحذلق يروي قصة لا وجود لها اساسا، بأن احد الكابلات البحرية التي تنقل الطاقة الى البلاد عبر الجسر قد انفجر والمسألة تحتاج إلى أيام، ما حمل البعض الى مغادرة البلاد للإقامة في المملكة العربية السعودية هذا في اليوم الأول، أما ما تلى ذلك من تصريحات في الايام التالية من قبل المسئولين، فإنه استمرار لسياسة التعتيم واذا كانت الصحافة وسيلة لترسيخ الشفافية فإنها استخدمت اداة للتعتيم أيضا ما يدفعنا لليأس من ممارسة هذه الشفافية، وبأيدينا لا بيد عمرو!
لجان تحقيق حكومية، واخرى نيابية، وهناك من يتحفظ على اللجنة الحكومية من دون مشاركة النواب، وشركة متخصصة محايدة، ايستحق الامر كل هذا؟! اذ حسنت النوايا فإن اقل القليل من ذلك قد يكفي، اذا قبلنا الشفافية فإنها كفيلة ليس بكشف المستور فحسب وانما بالحرص على عدم حدوثه أيضا.
ولسنا بصدد التعلق بمعرفة المذنب، وزارة الكهرباء أم شركة البا، فهذه قضية اختبار النوايا في الاصلاح والشفافية على المحك، ان لم يعترف بأن المشكلة مزمنة لأربعة عقود مضت واختزالها في يوم الاثنين فقط، وانقطاع مفاجئ يتم تقاذف اسبابه، فإن اي تحقيق لا فائدة منه، ولنجعلها على القدر المكتوب، هي اهون عند المهادنين وهم كثر.
كاتب بحريني
العدد 731 - الأحد 05 سبتمبر 2004م الموافق 20 رجب 1425هـ