العدد 725 - الإثنين 30 أغسطس 2004م الموافق 14 رجب 1425هـ

الصحافة والإعلام: سلطة رابعة أم حصان طروادة «لشرعنة الغوغاء»

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

يشيّع العراقيون موتاهم «بهدوء»، أو بلطم الخدود «سيان»، بعد طول مكابرة من أنصار السيد مقتدى الصدر، حيث فشلت قبيل ذلك عدة مباحثات سلام لتجنب إراقة الدماء بين هؤلاء الأخيرين والشرعية الحكومية العراقية، وكذلك بينهم وبين المؤتمر الوطني العراقي الذي يمثل الطيف السياسي والقومي والطائفي لمجمل العراقيين، إلى جانب انهيار الكثير من الاجتهادات والمبادرات من أصحاب الحكمة الساعين لاقتلاع العنف من الجسم العراقي، غير أن الإحباط الذي دب عدة محادثات بهذا الشأن جر إلى القتال ليحصد دماء عراقية جديدة حتى عودة المرجع الديني الأعلى آية الله علي السيستاني لينهي بمكانته المرموقة نزيف دم باطل بطريقة مشروطة كانت الحكومة والمجلس الوطني والعقلاء يجمعون عليها منذ فترة طويلة، فكان لو أخذ بها وبعقلانيتها لوفرت على العراق والعراقيين الكثير والكثير من هدر الدماء والطاقة والمال وما تم من خراب للنجف ولاقتصادات نفطية ولمرافق عامة قدرت خسائرها بنحو سبعة مليارات دولار في غضون أيام معدودات، في حين كان العراق في أمس الحاجة لكل دولار منها للإعمار وإعادة البناء وخلق المجتمع العراقي الديمقراطي الجديد.

لماذا انهارت كل المحادثات ولم تفلح المساعي السلمية العقلانية لإزالة الغوغاء بالعمل السياسي، وكاد الحسم العسكري قاب قوسين أو أدنى في مدينتين لهما مكانة في نفوس العراقيين مثل النجف الأشرف والكوفة المقدسة؟

بصراحة، الجواب على ذلك ليس صعباً، فهناك أسباب كثيرة تبدأ وتنتهي من رفض غاضب غير مفهوم لجماعة الصدر و«جيش المهدي»، «من ماذا؟... لا نعلم»، أولاً؛ رفضهم المشاركة السياسية السلمية في العملية السياسية الكبيرة التي تجري في العراق وعدم حضور المؤتمر الوطني الذي انتهى حديثاً سوية مع 1300 مشارك من جميع أطياف السياسة العراقية وانبثق منه المجلس الوطني، كما أن هناك أسباباً لانهيار المحادثات من أهمها في تقديري الدور التخريبي «التضخيمي» الذي لعبته بعض الفضائيات والصحافة العربية للمزاج العربي والعراقي، ولتهويل قدرات «جيش المهدي» وزعيمه الصدر، وتحوّل هذا الإعلام من «سلطة رابعة» مفترضة تراقب وتصوب، إلى «حصان طروادة» للغوغائيين، إذ «شرعنة» العنف من خلال توجيهات صحافية بطريقة التغطية للحوادث الجارية والنفخ فيها لدرجة مقززة؛ فهناك من يسميها بـ «انتفاضة الشيعة» بقيادة رجل الدين الشاب، ومن يعجن فيها بما يحلو له خوفاً من تداعيات الاستقرار في العراق وإعادة عافيته بنظام ديمقراطي جديد لا يرغبون برؤيته، على ما يبدو.

هذا الإعلام تجاهل الخطوات الحثيثة للعملية السياسية السلمية لبناء العراق الجديد، من جهة، وأعطى صورة قاتمة لها، ومن جهة أخرى، كان يلمّع «لنحر المختطفين والتفجيرات والقتل» كمادة إعلامية دسمة ويسميها «مقاومة»، وكأنها الأسلوب الأوحد والأساسي لطرد المحتل، فيما يتم التجاهل عن عمدٍ لكل إجماعٍ عراقي منذ إنشاء مجلس الحكم الانتقالي، ثم الحكومة الانتقالية ونقل السيادة إليها، وأخيراً المؤتمر الموسع وانبثاق المجلس الوطني الانتقالي الذي يحاول ترطيب الأجواء لإجراء الانتخابات في يناير/ كانون الثاني المقبل، ولم يكترث هذا الإعلام للأسف، أن يوضح للمشاهدين والمستمعين، كيف أن القوى السياسية العراقية الفاعلة في الحكم وخارجه تعمل ضمن أجندة دقيقة المواعيد ومسئولة على رغم تعقيدات الوضع، بهدف تحقيق الديمقراطية من حيث انتهى الآخرون، وليس من الصفر؛ فكل شيء تم في موعده: من نقل السيادة للعراقيين، إلى المؤتمر الموسع والمجلس الوطني المؤقت، إلى عمليات الإحصاء السكاني والإعداد للدستور الدائم وترتيب لجان المفوضية للانتخابات ذات الصفة الرقابية المستقلة حتى يأتي التاريخ المحدد للانتخابات والذي ستنبثق منه أول حكومة في تاريخ العراق منتخبة شعبياً عبر صناديق الاقتراع وليس من خلال الانقلابات ببلاغاتها رقم (1) المعروفة.

تصاب بالدهشة لكثرة الملثمين بأسمائهم المختلفة وهم يتلون بياناتهم كاملة على شاشات التلفاز وضحيتهم/ ضحاياهم ينتظرون النحر «كالخرفان»، فيما يستغل الإرهابيون بعض المحطات للتفاوض عبرها بطريقة همجية مقززة باسم: «الرايات السود»، أو «كتائب جيش محمد»، أو «الغضب الإلهي»، أو «كتائب الشهداء» أو «الجهادية» وما إلى ذلك من تسميات «تحسين صورة لأعمال بربرية» لا يقرها أي ضمير إنساني مهما كانت القضية التي يحملونها من قدسية.

ويبدو من خلال ما نشاهده يومياً، إنه بات من يخاطب الناس بالعقل أصبح مرفوضاً إعلامياً، وأقلها، متهماً بالعمالة للأميركان والغرب أو مروجاً لسياساتهم الشرق أوسطية المسمومة... والمثقفون العرب «فيا أحبهم» لتبادل الاتهامات، فمنهم من يقول عن «خصمه» بأنه مؤيد للإمبريالية الأميركية المتجبرة، لأنه كتب مقالاً يرفض العنف والغوغائية، وبين من يتهمون بعضهم بأن بوصلتهم تتجه دائماً إلى الجهة الخاطئة في حروبها، وهكذا دواليك، ونتيجة للضعف وعدم القدرة على تغيير السائد المرير يبحثون عن «رمز» ليقود هذه الأمة المتهالكة ويرفع السلاح ويمثل بالجثث ليكون بطلاً، حتى وإن لم يملك برنامجاً للتغيير ومشروع رؤية أو أفق لما هو قادم على إنجازه

العدد 725 - الإثنين 30 أغسطس 2004م الموافق 14 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً